إن موضوع سحب سفراء كل من السعودية والإمارات والبحرين من دولة قطر يعد أمرا غير مألوف في سجلات الدبلوماسية المعاصرة، على الأقل بين الدول ذات العضوية في منطقة إقليمية واحدة.. وكل من عاصر العلاقات الخليجية القطرية في المرحلة الأخيرة سيجد أن قطر بدأت تنحو بنفسها وسياساتها خارج السرب الخليجي والعربي. في محاولة لخلق وضع ومكانة لدولة قطر تفوق الواقع السياسي والجغرافي والسكاني لدولة قطر..
ولا أدري كيف تحملت القيادات الخليجية وحتى العربية هذا النهج المناوئ والمخالف لكل الأعراف والسياسات والتاريخ، بينها وبين دول الخليج.. وبالطبع لا بد من أن يدرك العديد منا أن هذا النزاع الذي ظهر وتصدت له إرادة سياسية شجاعة واعية ولها تاريخ من التحمل والصبر لمدة قد تزيد على العقدين.. ومع ذلك في كل مرة يحدث فيها تقارب واتفاق فسرعان ما تتنصل دولة قطر من هذا الاتفاق والاستمرار في سياساتها المعادية لكيان دول مجلس التعاون وكذلك للعديد من الدول العربية على حد سواء.. وبدأ سلوك دولة قطر المعادي والمتعمد بالتدخل والافتراء الإعلامي من خلال قناتها التي تلوي وتزيف الحقائق ودعمها لحركات مناوئة للعديد من الدول مثل الإخوان في مصر ولبعض الخارجين على الشرعية في دول مجلس التعاون، ثم تدخلها في سوريا وليبيا واليمن وبالطبع دعم العديد من الجماعات الإرهابية في العديد من الدول بشكل غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية، والأهم هو أن العديد من دول الغرب التي تكافح وتحارب الإرهاب لم تتصد لقطر ولو بالقول إلا مؤخرا وبشكل مختصر ولعل هذا الأمر يشير إلى أن دولة قطر لا تنفذ أجندات خاصة بها فحسب بل لدول أخرى والثمن هو ما تتخيله قطر أنها ستصبح القوة الكبرى في الخليج بل وربما بين الدول العربية والإسلامية، ولكن نقول إن فاقد الشيء لا يعطيه..
ولقد حاولت بعض دول الخليج التوسط لحل هذا الإشكال القطري المزمن مرات ومرات وكان آخرها الوساطة الحسنة من سمو أمير دولة الكويت، ولكن دون جدوى.
وهذا الأمر قادني إلى تصفح كتاب بعنوان «القانون الدولي» باللغة الإنجليزية تأليف الأساتذة وولف جانج فريدمان، وأوليفر ليستيون، وريتشارد بوج ويعد هذا المؤلف من المراجع الأساسية في القانون الدولي وخصوصا لطلاب الدراسات العليا في القانون.. وفي الفصل الثامن من هذا الكتاب ص 243 يتناول موضوع الحلول السلمية للنزاعات، وأن من أهم طرق فض النزاعات بالطرق السلمية هو التفاوض الذي قد يكون مباشرا وقد يكون عن طريق إرسال وفد لتقصي الحقائق وقد يكون كذلك عبر الوساطة وكذلك قد يكون حل النزاعات عن طريق المساعي الحميدة GOOD OFFICES وكذلك عن طريق التوسط MEDiATiON وأخيرا عن طريق التوافق بين الأطراف CONCiLiATiON.. وفي هذه الحالات يكون الهدف ليس تدخل الطرف الثالث مباشرة مع أطراف النزاع بل هو تحفيزهم لكي يقرروا بأنفسهم الصالح.. والكتاب الثلاثة أعطوا أمثلة عديدة لطرق حل النزاعات بالسبل السلمية من خلال الآليات السالفة الذكر.. وإنني على قناعة أن العديد من هذه الطرق السلمية لحل النزاعات قد جربت مع الجانب القطري بطريقة أو بأخرى، ولكن إذا كانت الرغبة في التصالح والنية غير سليمة ومتوفرة فلا جدوى.. وهذا يفرز ما سبقت الإشارة إليه من أن دولة قطر لديها أجندة خاصة بها.. ولمزيد من الفائدة فإن مبدأ عدم التدخل وكما عرف في «ويكي بيديا» فإنه قائم على أساس أن الدولة يجب أن لا تتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى وهذا الأمر مبني وقائم على مبادئ سيادة الدول وحق تقرير المصير ويمكن أن نقول إن تعريف عدم التدخل بإيجاز هو: «الاستقلال الاستراتيجي».. وقد يكون التدخل هذا اقتصاديا أو تدخلا في السياسة الخارجية والداخلية لدول أخرى..
ولمزيد من الإيضاح حول مبدأ عدم التدخل الذي يعود إلى معاهدة وستفاليا التي وقعت عام 1648م منهية بذلك ثلاثين عاما من الحرب بين بعض الدول الرئيسية في أوروبا، الإمبراطورية الرومانية، إسبانيا، فرنسا، السويد وألمانيا، الذين وافقوا على احترام السيادة الإقليمية لدولهم..
ومن جهة أخرى، يشير الكاتبان جاكسون وأوينز في بحثهما تطور ونشوء المجتمع الدولي في كتاب جون بيلس وستيث سميث «عالمية عالم السياسة، مقدمة في العلاقات الدولية» أن صلح وستفاليا يعد من أهم الوقائع الدولية لنظرية العلاقات الدولية الحديثة وغالبا ما يعرف كبداية للنظام العالمي والذي تناول الانضباط الدولي بين الدول..
وفي «ويكي بيديا» أشار بعض الكتاب وعرف العديد من المبادئ الأساسية لصلح وستفاليا والذي يؤكد أهمية السلام وتأثيره وأثره في العالم ومن أهم تلك المبادئ.
أ - مبدأ السيادة للدول والحق الجوهري لتلك الدول السياسي في تقرير المصير.
ب - مبدأ المساواة القانونية بين الدول.
ج - مبدأ عدم تدخل الدول في الشؤون الداخلية لدولة أخرى..
وبعد هذا السرد التاريخي عن أهمية مبدأ عدم التدخل في العلاقات بين الدول والذي تعود جذوره لقرون عدة، لعل القارئ يتساءل وبحق، ما الفائدة من كل هذا الكم الذي يهدد ويحمي مبادئ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى بوجود دولة مثل قطر تمعن في التدخل ورغبتها في تغيير دفة الأمور في الدول (أ) أو (ب) بدون كلل أو ملل والأهم من ذلك بدون وجود هدف وطني لصالح الإنسان والمكان عوضا عن الإفساد في الأرض..
وبشكل أكثر وضوحا، ماذا تستفيد دولة قطر من دعم الإرهاب والإرهابيين في دول عربية وبعضها جارة، وماذا تستفيد من محاولة تأليب الرأي العام والاستعداء، وماذا تستفيد من تأجيج الأوضاع في بعض الدول العربية بالفعل والقول ودعم الإرهابيين من الإخوان والحوثيين وغيرهما، ماذا تجني من هذا الفكر الذي تهدف معه للإيذاء والتدمير والقتل، هل تتصور بذلك أنها ستضحي الدولة الأساس في العالم العربي، هل تعتقد أنها ستكون ذات الثقل السياسي الدولي المتنفذ، هل تعتقد أنها سوف تساعد في تغيير خارطة المنطقة بدعم وتعاون جهات خارجية..
في واقع الأمر، بذلت وقتا غير قليل، وفي فترات تاريخية متباعدة وقتا غير قليل لكي أدرك العلة وراء مثل هذا السلوك الخطير من دولة عضو في الأمم المتحدة والجامعة العربية ومجلس التعاون.. ومما يثير العجب أنه ترد في وسائل الإعلام تصريحات من قبل وزير خارجية قطر مثل التي صدرت مؤخرا منه في باريس من أن قطر دولة مستقلة ولا تسمح لأحد بالتدخل في شؤونها؟!!
نقول، ماذا إذن هي فاعلة بكل هذا التجاوز والتدخل بالفعل والقول في شؤون بعض الدول وخصوصا الجارة منها، وهذا في تقديري ليس ازدواجية في المعايير بل إمعان في الغي والضرر والأذى.. إن دولة قطر لديها الوفير من المصادر والثروات الطبيعية، وتعداد سكانها من جهة أخرى قليل ولعل بعض قادتها توصل إلى أنه من الأفضل لقطر الاستثمار اقتصاديا وماليا في الخارج وهي بالفعل تفعل ذلك وبشكل كبير.. ومن جهة أخرى نقول إنه لأول مرة نرى دولة جارة تستثمر في الشر والأذى خارج حدودها بهدف إحداث خلل في التوازن الإقليمي والعربي، وبالطبع نتساءل مرة ثانية لماذا ولصالح من تفعل قطر مثل هذه الأمور، هل تسعى قطر لأن تكون دولة ذات تأثير كبير في مسار الأحداث الإقليمية والعالمية، وهل هي تسعى لتكون دولة كبرى من خلال الإخلال بالتوازن القائم ولماذا تقوم بتلك الأمور إذن.. هل تفعل ذلك من خلال التعاون مع إسرائيل وإيران، ربما، لتحقيق أهداف وسياسات خارج الصالح الخليجي والعربي.
وكنت قد كتبت مقالا منذ سنوات نشر في جريدة الحياة عن دولة قطر بعنوان «وظلم ذوي القربي».. واليوم لم يتغير الأمر كثيرا من قبل قطر وأصبحت تمعن في الأذى ودعم الجمعيات الإرهابية وأضحى ظلم ذوي القربى أذى ذوي القربى وهو بالطبع أمر لا يقبله عاقل.. ونقول للحقيقة والتاريخ والواقع السياسي، إن المملكة العربية السعودية دولة محورية ذات ثقل عالمي ومؤثر في الأحداث العالمية وكانت سياستها ولا تزال الدعم والمؤازرة. وهي الصديق وقت الشدائد ومقيلة العثرات ومساعدة المنكوبين.. ولعلنا لا ننسى ولن ننسى موقف المملكة من احتلال الكويت الشقيق ومن أن موقف القيادة السعودية كان العامل الأساس في تحرير الكويت نظرا لما تملكه من بنى أساسية وقواعد عسكرية متطورة أسهمت في إدارة معركة التحرير.. ثم موقف المملكة منذ سنوات قليلة وبالتعاون مع مجلس التعاون للمعاونة والوقوف مع دولة البحرين الشقيقة لكي تستطيع إعادة نشر قواتها في الداخل لصالح استقرار دولة البحرين.. ثم قبل ذلك بسنوات موقف المملكة في مؤتمر الخرطوم بعد نكسة 1967 الذي قاد إلى حرب وانتصار أكتوبر من قبل مصر العزيزة.. ولا مجال هنا لكي أعدد ما تقوم وقامت به المملكة على المستوى الإقليمي والعربي والإسلامي والدولي، فمكانة المملكة وأعمالها واضحة للبيان ويشهد لها العالم بأنها دولة محبة للسلام وتسعى لاستقرار السلم والسلام العالمي..
والحق يقال إن صبر السعودية والعديد من دول مجلس التعاون على سلوكيات دولة قطر قد طال وبشكل كبير ولكن ما إن يصل الأمر لما وصل إليه من تحريض ودعم للإرهاب، فلما تجاوز الظلم بالأذى فكان لا بد من هذا الموقف السعودي الإماراتي البحريني القوي لوضع حد ووضع النقاط على الحروف ومن أن للصبر حدودا والذي لا يعني مطلقا عدم القدرة على اتخاذ القرار المناسب تجاه ما حصل ويحصل من دولة قطر..
وفي النهاية أعتقد، والعلم عند الله، أن دولة قطر لن تتوقف عن ما هي ماضية فيه.. ولعل الزمن كفيل بحل هذا المعضل ولكن مع الأسف لن يكون في صالح دولة قطر.. وكان الله في عون الشعب القطري الشقيق.