-A +A
مشعل السديري
في رحلة سابقة لي من (نيويورك) إلى جدة، وما أن ضربت عجلات الطائرة في مطار جدة، بعد شوق من قبلي لها ولبعض الأقلية من سكانها، حتى اهتز المقعد الذي أمامي بحركة عنيفة، ووقف رجل مثلما يقولون (كتف وردف) ــ أي أنه رجل جسيم ــ كان طوال تلك الرحلة الطويلة يكاد أن يخرق طبلة أذني بشخيره المزعج المتواصل ولو لا خوفي من الله ثم خوفي منه لأطبقت على منخاره بكلتا يدي، هذا إذا لم أعضه.
قام ذلك الرجل وهو في منتهى الحبور، وما أن أتت له المضيفة (العصلاء) ببالطوه وعلامات الإرهاق بادية على قسمات وجهها، حتى بادرها وهو (يتهزهز) ويريد أن يخفف دمه قليلا، فقال لها وهو يربط حزامه على كرشه: أضحكي ياحلوة الدنيا ما تستاهل.

فردت عليه ردا أعجبني عندما قالت له: أضحك أنت الأول، فما كذب خبرا حتى (فرشخ) بضحكة واسعة شاهدت فيها أسنانه الصفراء وأضراسه التي نخرها السوس، وبعد فاصل لا بأس به من الفرشخة، عاجلته هي قائلة: إذن أرجوك أن تحافظ على ضحكتك هذه لمدة 12 ساعة متواصلة، لكي تعرف كيف تكون معاناة الضحك المفروض عليك؟!.
لا أكذب عليكم أن ردها عليه أعجبني، فلم أملك إلا أن أؤشر لها بيدي من خلف ظهره مع حركة من رأسي، وغمزة صغيرة من عيني، دلالة أن كلامها أعجبني.
وياليتني لم أفعل ذلك، لأنها تجاوبت مع ملاحظتي، وبدون مقدمات فرقعت بضحكة أذهلتني، لأن ضحكتها كانت تشبه تماما نقيق الضفدعة.
وسبق لي أن سافرت على رحلة أطول منها، وذلك عندما طرت من (نيوجيرسي) إلى (سنغفورا) في رحلة امتدت تسع عشرة ساعة ونصف، نمت بعد نصف ساعة من إقلاعها، واستيقظت قبل نصف ساعة من هبوطها، وكأنني لم أطر في تلك الرحلة غير ساعة واحدة.
أما أقصر رحلة سافرتها فقد كانت من جدة إلى الطائف، ومدتها من الإقلاع إلى الهبوط لا تزيد على (35) دقيقة، وكان الوقت عصرا ونحن في رمضان، وحيث إنه يستحب الإفطار في رمضان عند السفر، وحيث إن الله يحب أن تؤتى رخصه، مثلما يحب أن تترك نواهيه، وحيث إن المدينة قد اختفت عن ناظري بعد أن أقلعت الطائرة، وحيث إن المسافة كانت أكثر من ثلاث مراحل على ظهر البعير، وحيث إن شروط السفر من الوعثاء إلى كآبة المنظر كلها كانت متوفرة، لهذا أفطرت مضطرا صحيا وأنا في الطائرة على حبة حلاوة، وما أن هبطنا في مطار الطائف حتى تناهى لي آذان المغرب قائلا: الله أكبر..
وذهبت رأسا وتوضأت، وصليت مع الجماعة.
وفي آخر أسبوع من شعبان قضيت ذلك اليوم الذي أفطرته، وكان الله يحب المحسنين.