-A +A
حسن النعمي
يتأسس الرفض أو القبول في أي مجتمع على خلفيات متعددة وشبكات معقدة من الأنظمة المعرفية المتداخلة. فالرفض ليس تلقائيا، كما أن القبول مرحلة متقدمة من فهم العالم من حولنا. فالرافضون للتغيير ليس بالضرورة قساة أو على درجة من التوحش، بل لديهم حسابات مغلوطة تؤدي إلى الرفض تخلصا من تبعات القبول.
سأستخدم رفض السينما نموذجا لمقاربة الرفض والقبول في المجتمعات التي تجد نفسها أمام التغير. الخلفية الاجتماعية المتحفظة لثقافتنا المحلية ليست حالة استثنائية، بل حالة طبيعية عندما تكون في مرحلة الترقب، لكن عندما تصل إلى حد التوتر والانفعال، فهي تخسر قيمتها وسمتها دون أن تسلم من التغيير. ويمكن أن نأخذ نموذج اليابان، حيث استطاع الناس أن يأخذوا بأسباب التمدن دون الإخلال بشخصية ثقافتهم المحلية، بل أصبحوا نموذجا في القدرة على التوازن.

المقصود بالسينما هو قيام دور عرض مصرح بها رسميا لعرض ما يناسب المجتمع من أفلام عربية وعالمية. أما إنتاجها واستهلاكها فهي تجربة قائمة لم ينكرها أحد. فهناك موجة من صناعة السينما بين الشباب، نافست وحصلت على جوائز، وتباهي بها وزارة الثقافة في معارضها العالمية، ونشاهدها فرادى في وسائل التواصل الحديثة أو في القنوات الفضائية. إذن المشكلة ليست في المشاهدة، أو فيما نشاهد، بل في التجمع، وتحويل المشاهدة إلى طقس اجتماعي. فهل الأمر له شأن أمني، بحيث يمنع التجمع؟ أم أنها مخاوف ذات صبغة دينية، أم أنها نزعة من التشدد، أم أنها رفض لحركة النمو الطبيعي للمجتمع؟ هذه أسئلة حيرى أمام ظاهرة غير مفهومة!
نعود لفلسفة الرفض والقبول. سأبدأ بالقبول فهو الأسهل. سأعود لقبول السينما في مجتمعنا حتى عام 1980م، فقد أتيح للمجتمع مشاهدة الأفلام السيمائية عبر دور عرض منتشرة، شكل الذهاب إليها خاصية سلوكية وترفيهية في الستينات والسبعينات الميلادية.
منذ عام 1980، وتزامنا مع حركة جهيمان، ومع ظهور المد الصحوي توقفت الظاهرة. اشتغل المدى الصحوي على فكرة تطهير المجتمع من منطلق الاعتقاد بانتشار الرذيلة، وهو حكم جائر في حق مجتمع طبيعي. تعامل المد الصحوي مع المستجدات بتشنج مبالغ فيه ما لبث أن تخلى عن تحفظه في مسائل عديدة، لكن بعد أن ترسخت في أذهان العامة العديد من المحظورات والمغالطات. ففي الوقت الذي جاهد فيه الكثير لمنع افتتاح دور عرض سينمائية، تسامحوا مع محلات الفيديو التي انتشرت في حقبة الثمانيات بوصفها أحد أبرز ظواهر تلك المرحلة. إذن محتوى الأفلام لم يكن مشكلة، بقدر ما كانت المشكلة في فكرة التجمع.
التجمع ــ في حد ذاته ــ لا يخالف النظام طالما أنه يحقق مصلحة اجتماعية أيا كان نوعها. فالتجمعات الرياضية، أو الاحتفالات العامة، أو المناسبات الخاصة، أو الملتقيات الدينية أو العلمية، كلها تجمعات تصب في مصلحة المجتمع. والتجمع من أجل السينما يدخل في جانب الترفيه مثله مثل التجمعات الرياضية. إذن أين المشكلة؟
الرفض يهدف للهيمنة على المجتمع وقد حصل ذلك في المدارس، وحشد الناس بالآلاف للمخيمات الدعوية، ولم يقل أحد لماذا يجتمع الناس بهذه الأعداد الكبيرة. وهذه التجمعات لم تكن كلها ذات نزعة تربوية خالصة، بل خالطها ما يخالط غيرها من الأهواء والمصالح المادية وغيرها. وإذا كان خطاب رفض التجمع من أجل السينما قد خفت، فإن العامة التي تشربت الرفض ما زالت تقاوم دون وعي منها إلا ما تشربته من خطر السينما على المجتمع. وربما أن رفض العامة خير في أصله، لكن لا يجب أن تتحكم مخاوف ضبابية في تقدم المجتمع دون النظر لما يحتاجه المجتمع. تم من قبل مقاومة الإنترنت، وجوال الكاميرا، وأثبتت الأيام أن أول الرافضين هم المستفيدون.
قانون الرفض في مجتمعنا غير مفهوم، إلا إذا نظرنا فيما خلفه من مصالح. فكل فعل اجتماعي يحمل ما يقابله من الرفض. وكأن قدر المجتمع الرفض قبل الموافقة، ربما للمعاندة، والمكابرة. الرفض قانون تصنعه نخبة معينة لتغرق في تبعاته شرائح اجتماعية مختلفة. وللأسف بات من أدوار الحكومة تصحيح مسار المجتمع كلما أعوج عن أهدافه التنموية. تدخلت الحكومة لإقرار تعليم الفتاة بعد مقاومة شرسة تبين للرافضين قبل غيرهم فساد موقفهم. وتدخلت لإنشاء التلفزيون، وتدخلت في سياقات أخرى مختلفة، مع أن من أدوار المجتمع دفع الحكومة لتبني مواقفه للتنمية المدينة والاجتماعية، وليس العكس.