-A +A
بدر بن سعود
شاهدت مـؤخراً فيلم «اختيار صوفي» للمخرج غافن هود، وهو قديم نسبياً، انتج في عام 1982، واكثر ما اعجبني فيه اتقان النجمة ميريال ستريب، للغة الالمانية، وكلامها بانجليزية مكسرة، على طريقة من لا يتقن اللغة او من تعلمها في سن متأخرة، واعتقد انها حصلت على جائزة عن هذا الدور.
الفيلم مؤثر جداً، يتناول قصة ترويها أم يهودية فقدت عائلتها في الهولوكوست النازي، خيرت بين التضحية بابنها أوابنتها، فاختارت التنازل عن الابنة، عندما وجدت انها ستفقد الاثنين، ثم ضاع الابن منها، وفي المشاهد الاخيرة فضلت العودة للموت بين يدي مجنون احبها وهدد بقتلها. خيارات غريبة وصعبة قامت بها هذه المرأة السينمائية او الروائية، دون شك، والمسألة في الواقع، مشابهة لمن يفترض الديموقراطية والنـــزاهة في الاعـــلام السيـاسي، امـام التنافس على المعلــن والجمهور، وشـــروط النخبــة السيــاسية والثقافية، فالاحتمالات، في معظمها سوداء وكئيبة، لان كل طرف في المعادلة الاعلامية يحتاج الى الآخر ويعتمد عليه، والخسارة الكاملة واردة باستمـــرار واحياناً مقصــودة، وكتب الصحافي البريطــــاني بيتر ريـــدل ، مقــــالة حـــــول المـوضوع، نشـــرتها جـــريدة الغــــادريان يوم 20 سبتمبر 1999، عنوانها: «طريقة دار الحضانة»، تكلم فيهــــا عن الضغـوط التنافسية في الاعلام السياسي، وسيطرة الطابع الشعبي على محتوى الاخبار، و زاد بان الصحافة الجادة ومعها التابلويد، (وأضيف عليها بعض المحطات الفضائية العربية)، تفرد مساحات لابأس بها للسياسة، تركز في الغالب على الفضائح السياسية، وسوء استخدام السلطة، باسلوب يضخم الانقسامات والخلافات، ويهمل الحراك السياسي الحقيقي ، ورأى الفرنسي بيير بورديو (1998) بــان المناظـرات السيــــاسيـــة فـــي التـلفزيــون، وغيرها من الصيغ الاعـــلامية المتلفــــزة، ليست سوى لعبة او تمثيلية اعـــلامية.، او بتعبير ديفيد ميتشي في: المقنعون خلف الكواليس(1998) هي مكان لاستغفال دكاترة الفبركة المكيافيلية، وقـــال رودريك هارت في كتابه: صوت القيادة (1987) بان صحافيو الاخبار في الــولايات المتحدة (وربما غيـرها) يسيطر على متـــــابعاتهم الصحافية هـاجس الاهانة السيــــاسيـــة الرخيصة والفضائحية، ضمن ما يعـــرف بثقــــافة الاختصارات الاعـلامية المهمـــــة أو «ساوندبايت» والثقافة المذكورة تهمل سياق الخبر، وتهتم بالملفت والمثير فيه، حسب تقييم الصحافي او الوسيلة الاعـــلامية، حتى انه لم تعد هناك فروق حقيقية، بين الحوار الجاد والتسلية، او بين الخطابات السياسية ودعاية الافلام السينمائية، و«البندوقراطية» او وظيفة الناقد المقرر، الذي يحدد ما يبقى ويحذف، وفق التزامات البث ومساحاته، كما اسماها ديفيد نيمو و جيمس كومز في كتابهما: نقاد السياسة(1992) ادت الى اشباع الرأي العام، باشاعات وتوقعات لا اساس لها. لا احد ينكر ان البضاعة الصحافية، ساهمت في دعم حقوق المواطنة التي بدأت بتنازلات متحفظة، ثم تطورت الى حقـــــوق كاملة، منذ اول ظهور للاخبار، كشكــــل ثقافي له مـلامح واضحة، في الحضارة الاوروبية الجديدة، وابتكار الالماني يوهانز غوتنبرغ لآلة الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر، وحتى الانترنت وثورة الديجتال الحالية، فالمواطنة كانت مقيـدة في بدايات القرن العشرين، ولم يسمح للنساء بالتصويت في اغلب الدول الراسمالية الرائدة، الا بعد الحرب العالمية الاولى، ومنح الأمريكيون من اصل افريقي حق التصويت في ستينات القرن، و العملية الديموقراطية سواء اكان مكانها جنوب افريقيــا او اوروبا الشرقية، او الديكتاتوريات السابقــــة في امريكا الجنوبية، باستثناء الوضع المراوح في مكانـــه في بعض الدول العربية، فإن كفاحها في مجال الحريات والحقوق، يحدد الادوار والآداب والممارسات المهنية للصحافة السياسية. كذلك ازالت ثورة الاعلام، الحواجز التقليدية بين النخبة والعامة، فقد كان الصحافيون في الماضي، يخاطبون نخبة من الرجال اصحاب الثقافة، بينما الآن صار الاعلام متاحاً لملايين الناس، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية او التعليميـــة او البيولوجية، وتكــــونت شبكة من العلاقات الافقية المتســــاوية، تربط الاشخاص والجماهير العريضة في دولة ما، بنظرائهم في دول اخرى، وعلاقات راسية او عاموديــة، تسمح للاشخاص بالدخـــــول في حوارات مباشرة و مريحة مع بعضهـــم، او مع النخب السياسية والاعلامية، خصوصاً عبـــر الانترنت وتقنية الإيميــــل السحرية، هذا لو تجاوزنا الآراء العربية التي تقول بأن شعبنة السياسة ظاهرة غير صحية. المحررة في صحافة التابلويد، كارول سارلر، قالت في «بريتش جورنالزم ريفيو» (1998) بأن الاخبار المثيرة تعكس اهتمام رجل الشارع، وتعبر عن الديموقراطية الحقيقية ولا تتعارض معها، ورأيها يثبته تحميل ستة ملايين شخص، لتقرير لجنة ستار عن فضيحة مونيكا لوينسكي، او زيب غيت (بالعربية: فضيحة «السحاب») في اول يومين من وضعه على الانترنت، والموجة بدأت في التسعينات، لان الصحافة الامريكية في زمن الرئيس جون كيندي، تكتمت على العلاقة بينه وبين مارلين مونرو، وعلق اندرو مورتن، كاتب سيرة ديانا اميرة ويلز، في حوار عن الملكية البريطانية بثته «آي تي في» في يناير 1997، بان بريطانيا غادرت المرحلة، التى كان فيها ثلاثة بين كل عشرة بريطانيين يعتقدون بأن الملكة اليزابيت، مرسلة من السماء، يقصد ان نقد الذات الملكية ممكن ولا حرج فيه ما دام ملتزماً، في تبرير غير مقنع، لاثارة يحاول التأكيد عليها، وحالياً أي في عام 2007 يعرض فيلم عن الملكة ينتقدها بشدة. يقول فريدريك جامسون(1991) بأن مفهوم الموضوعية تضخم بصورة حادة. وأرى ان الفترة حرجة وغير مفهومة، بـالذات مع وجود المحترفين فـــــي ادارة الاعـــــلام، ويحاولون التـأثيرعلى الرأي العام، والقرارات الحكومية، و بالتالــــي محتـــوى الاخبار السياسية، فـــي انتصـــار مخز للاسلوب المزخرف و المحتوى الهش، وموقفي لا يختلف عن موقف روبرت هاريس، كاتب العامود في جريدة ذي صاندي تايمز، الذي شق بطنه وانتحر على طريقة الهراكيري اليابانية، في مقال نشر يوم 8 نوفمبر 1998، عندما قال: اذا تكلمنا بصراحة فلا احد من كتاب الاعمدة يعرف أي شيء عن أي شيء...!

binsaudb@ yahoo.com