لم يسبق للعبة من الألعاب أن خلبت لب العالم ودفعت ملايين البشر إلى التحلق حولها كما هو الحال مع كرة القدم. صحيح أن البشرية احتفت على مدار العصور بالكثير من الرياضات وألعاب القوى، ولكن أيا من هذه الرياضات والألعاب لم تصب الناس بالحمى التي تصيبهم الآن، ولم تدفعهم إلى التسمر ساعات طويلة أمام الشاشات، ولم تتحول الى عنوان للاعتزاز الوطني والقومي، مثلما فعلت هذه الرياضة الساحرة خلال قرن من الزمن. لقد باتت «الفيفا»، على المستويات الجماهيرية والاقتصادية والمعنوية، إحدى أهم إمبراطوريات العصر الحالي وأكثرها نفوذا وقوة حضور. إذ باتوا نادرين تماماً أولئك الذين يديرون ظهورهم لكرة القدم. وإذا حدث لبعضهم أن أشاح بوجهه عنها خلال المباريات العادية، فإن الأمر يختلف مع المونديال الذي ينجح كل أربع سنوات في تعطيل الحياة على الأرض وتحويل الملاعب الأولمبية الى ساحات رمزية مصغرة للافتتان بليونة الجسد الإنساني والتماهي مع الحيوية الهائلة للاعبين. ومع ذلك فإن السحر الذي تفرضه اللعبة على الناس ليس وليد الصدفة البحتة بل هو وليد عوامل عديدة يتصل بعضها بالكرة وبعضها بالملعب واللعبة وبعضها باللاعبين. فالكرة نفسها ليست سوى التجسيد المصغر للكرة الأرضية التي تتقاذفها الأمم والممالك، والتي يتحكم بمصيرها الأقوياء دون غيرهم. على أن للعبة منطقها المختلف في أحيان كثيرة، بحيث يمكن للأمم المغلوبة أن «تنتقم» لنفسها من الأقوياء عبر تنمية المهارات المتصلة بهذه الرياضة والتعويض عن ضعفها وتهميشها السياسي من خلال انتصاراتها الباهرة على أرض الملعب. كل ملعب لكرة القدم هو في رمزيته الأبعد ساحة للعراك من أجل الظفر بالسعادة أو المجد والتفوق. والكرة التي تدخل الى مرمى الفريق الآخر هي البديل المجازي عن شهوة التوسع ودحر الخصم وهزيمته في الصميم . كأن اللعبة هي بشكل من الأشكال هي نوع من التصريف «الناعم» لفائض العنف البشري الذي يعبر عن نفسه غالبا من خلال الحروب والمواجهات الدموية. وتوزيع اللاعبين على الأرض هو بدفاعه وقلبه وجناحيه وهجومه مشابه لتوزيع الجيوش في المعارك. وفي هذه اللعبة يتاح للاعب الفرد أن يبرز أقصى ما لديه من رشاقة وحيوية وذكاء متقد، بحيث تنتظر البارعين نجومية وثراء قل نظيرهما .كما يتاح للفريق برمته أن يعبر عن تضامنه وانسجامه الجماعي بما يحوله الى سمفونية متناغمة العزف والأداء. هكذا يتكامل الفرد مع الجماعة دون أن يذوب فيها، ويعكسان معا روح الأمة وعظمتها وتوقها إلى التحقق الأسمى. ثمة في هذه اللعبة أخيرا ما يعيد الاعتبار للقدمين اللتين تقعان في أسفل الجسد، وفي أسفل السلم المعنوي الذي يشكل الرأس تاجه الأبهى. وحيث كانت لليد بأصابعها الخمس وقدرتها على المناورة أفضلية من نوع ما على القدم فإن كرة اليد لم تنل الحظوة الشعبية الاستثنائية التي نالتها كرة القدم. ذلك لأن الأخيرة تحتاج إلى مهارات أعلى ودربة أكثر، في ظل عدم قدرة القدم على الإمساك بالكرة والإفادة من أصابعها الخمس شبه «العمياء». ومع ذلك فإن القدم البشرية تنقلب على دونيتها، وتسخر ذكاء العقل ومهارات الجسد كلها لتراقص الكرة الصغيرة فوق أرض حافلة بالرموز، وتسددها نحو فضاء مثخن بالدلالات والأحلام والرغبات المستحيلة.