-A +A
حسن النعمي
المقاطعة شكل من أشكال العمل الديمقراطي، وليست مجرد تجمع ضد نمط معين أو ردة فعل تجاه قضية معينة. هي ممارسة تقوم على وعي بالتوازنات المتاحة في أرضية العمل الحقوقي. وبهذا المعنى ليست تجمعا شعبيا، بل هي عمل أصيل من أعمال البرامج السياسية التي تحكم المجتمعات الديمقراطية.
إذن ما هو حال المقاطعات في المجتمعات العربية؟! أعتقد ما تقدم يفسر النزعة الدفاعية التي تصحب أعمال المقاطعة التي تقوم بها المجتمعات العربية سواء داخل القطر الواحد، أو تكتلا ضد سلوك خارجي. وسواء اختلفت منطلقات المقاطعات من سياسية إلى اقتصادية، إلى اجتماعية، فإن النتيجة تبقى واحدة، وهي الفشل الذريـع، بل تنقلب النتائج عكس النزعات الخيرية التي تغذيها، فأين الخلل؟

الذهنية العربية ذهنية احتجاجية بامتياز، غير قادرة على التأقلم مع المتغيرات، وغير قابلة لمراجعة النفس وضبطها، بمعنى غياب العقلانية عند النخب قبل العامة. وغياب العقلانية عند النخب لا يعني عدم المعرفة بجدواها، بل رغبة في حصد مكاسب مختلفة سواء كانت هيمنة من أي نوع، أو تبرؤا دون تقديم حلول ناجعة لإشكالات حقيقية تواجهها المجتمعات العربية.
تاريخ العرب مع المقاطعات يبدأ من مقاطعة إسرائيل، والهدف من المقاطعة كان ومايزال هو خنق إسرائيل وإقصاؤها من الوجود بوصف المقاطعة بديلا عن لغة الحرب التي تتقنها إسرائيل، ولا يعرف العرب تهجئة حروفها. مرت سنوات طويلة وأجيال متلاحقة ولا أثر للمقاطعة إلا تزايد نمو العدو، وانحدار المحيط العربي إلى الهاوية يوما إثر يوم، غارقين في مشكلاتهم الحدودية والداخلية. المقاطعة قائمة شكلا، نائمة موضوعا حتى لم يعد أحد يتذكرها.
ورغم وجاهة مقاطعة إسرائيل وسلامة مبرراتها إلا أن الواقع العربي برهن على أنها هروب للأمام، أو صيغة من صيغ التبرير للشعوب العربية. وأحد أسباب فشلها أنها خاوية من المضمون الديمقراطي الذي يجعلها قوة دافعة. فالمجتمعات الكبرى لا تحترم قرارات الدول إذا كانت هرمية.
من أشكال المقاطعة ما له شكل ديني. ويحضرني مثال مقاطعة الدنيمرك على خلفية الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم. ورغم منزعها الديني الكبير إلا أنها فشلت، فلا الدنمرك اعتذرت، ولا الأمم المتحدة سنت قوانين تجريم الإساءة للرموز الدينية. أذكر أن عقلاء الأمة نادوا بتجاهل الإساءة حتى لا تكبر، لكن أصحاب المنافع والمصالح السياسية بالغوا في حشد الناس مستغلين عاطفتهم الدينية. مع أن أبلغ رد هو التمسك بسنة المصطفى في التعامل مع العدو حتى تنكسر شوكته سلما. كان يمكن إعادة تقديم شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم للغرب بطريقة حضارية، وقد فعل بعض المخلصين دون الحكومات التي اكتفت بالاحتجاجات أو استدعاء السفراء. المقاطعة فشلت في هدفها وهو اعتذار الدنمارك ومحاكمة المسيء للرسول برسوماته، بل تناقلتها وكالات أنباء العالم بعد أن كانت مغمورة، من أساء لرسولنا الكريم في هذه الحالة، نحن أم هم، الجواب لكم؟!
تفشل المقاطعة مرة أخرى ليس لعدم نبل منطلقها من حيث الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لتغييبها للمواطن واستدعائه عند الحاجة ليقوم بدور الكمبارس في أداء الأدواء الصعبة عن الممثل الرئيس. تجييش العامة للمقاطعة عمل بدائي لا تنتجه إلا المجتمعات الفارغة من المحتوى الديمقراطي الذي يصبح الفرد فيه فاعلا برأيه وحضوره الإنساني والاجتماعي. أما أن يستدعى الناس لأداء دور لا يعرفون منه إلا ما ظهر، فهذه سنة المجتمعات غير الديمقراطية، لذلك فكل فعل تنتجه النخبة دون وعي العامة مآله الفشل الذريع.
صار من السهل مع وسائل التواصل الحديثة إطلاق حملات المقاطعة، وليس غريبا أن تجد في كل يوم مقاطعة لأسباب تبدو في ظاهرها موضوعية، لكنها في الحقيقة أسباب تضعها نخب معينة لأهداف خاصة، تدعو إليها العامة، مستغلين نزعات الخير في نفوس الناس.. في هذه الأيام حملة مقاطعة لإحدى محطات التلفزيون العربية بداعي المساس بالشهر الكريم. استغلال هذه المناسبة لإطلاق هذه الحملة يشكل علامة استفهام. لماذا هذه المحطة بالذات، رغم أن عشرات المحطات تقدم برامجها بالمعيار نفسه من الترفيه، من المسلسلات والمسابقات والبرامج الأخرى. ثم هل كانت ذات القناة أو غيرها بمنأى عن الإضرار بالمجتمع في الأشهر الأخرى قبل رمضان وبعده؟!. المبدأ واحد، لكنها نزعة الهيمنة وتأكيد الحضور الاجتماعي، بل وتصفية حسابات خاصة ضحيتها العامة. الأهم من ذلك هو أسلوب الوصاية، حيث يأتي من يقرر ما تشاهد، وربما ما تلبس وما تأكل. القضية في ظاهرها مقاطعة، لكنها في صلبها استحواذ وهيمنة.. ما يؤلم ليس خطاب المقاطعة، بل استغلال أحد شعراء العامة الأقرب صوتا للناس ليؤكد في قصيدة هجائية مثالب تلك القناة بما يخرج أهلها من الإسلام، وهو ما لا يقول به عاقل.