أعلنت في مصر جوائز الدولة للآداب والعلوم والفنون والعلوم الاجتماعية. هذا موعدها السنوي الذي لم تتأخر عنه إلا أيام وزير الثقافة الإخواني وما جرى من ثورة للمثقفين عليه. وكالعادة تكون هذه مناسبة للهجوم والموافقة والتهنئة والدعوات لمن لم يفز بفرصة قادمة. وبعيدا عن أي تقييم للجوائز التي أراها بشكل عام لا تثير غضبا كثيرا هذا العام أتوقف غير غاضب عند أحد العلامات الكبيرة في تاريخ السينما المصرية الذي لم يفز بجائزة الدولة التقديرية في الفنون وهو المخرج الكبير سعيد مرزوق. لقد فاز بالجوائز التقديرية الثلاث للفن فنانون كبار بحق هم عز الدين نجيب وهو فنان تشكيلي كبير وكاتب للقصة وناقد للفنون وتاريخ من النضال الوطني تأخرت عليه الجائزة كثيرا.. وفاز أيضا المخرج التليفزيوني الملقب بالملك مجدي أبو عميرة والمخرج المسرحي والممثل سناء شافع.. لم تكن الجائزة من نصيب سعيد مرزوق .. كنت أتمنى لو ذهبت لسعيد مرزوق حتى لو على حساب مجدي أبو عميرة فهو أصغر سنا بكثير من سعيد . لكن هذا ماجرى والتهنئة للجميع واجبة.
طيب ما المسألة الآن ؟، المسألة هي أن الجائزة ذكرتني بهذا المخرج الفذ الذي حين ظهر في السينما بفيلم «زوجتي والكلب» كان ظاهرة كبيرة في التجديد في هذا الفن العظيم . وإذا عرفنا أن سعيد مرزوق لم يدرس السينما وإن أحبها مبكرا وكان منزل أسرته مجاورا لاستوديو مصر بحي الهرم وألقى به الحظ وهو في العاشرة من عمره ليرى المخرج العالمي سيسيل دي ميل وهو يخرج في مصر فيلم الوصايا العشر في صحراء الهرم في بداية الخمسينات .. سعيد مرزوق من مواليد 1940 . اندفع يقرأ عن هذا الفن الذي لم يدرسه كما قلت إنما كانت السينما نفسها هي مدرسته . اشتغل مساعدا لزميله المخرج الشاب إبراهيم الشقنقيري. ثم أخرج أفلاما قصيرة كثيرة نال بعضها جوائز في مهرجانات عالمية مثل (أعداء الحرية ــ 1967)، و (طبول ــ 1968).. ونال أيضا جائزة الدولة في الإخراج والتصوير والمونتاج في ذلك العام. كما أنه قام بإخراج فيلم (دموع السلام ــ 1970) الذي أختير كأفضل فيلم عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. لكن الطفرة هي التي جعلته حديث السينما والناس، وكان الفيلم الروائي العظيم زوجتي والكلب . كان ذلك عام 1971 ثم تلاه بفيلمه «الخوف عام 1972م». كنا نحن الشباب في ذلك الوقت نقرأ عن الفليمين مقالات لم تنقطع لأعوام في كل الصحف ومقارنات بين سعيد مرزوق والسينما الفرنسية ــ الموجة الجديدة ــ والسينما الإيطالية ــ الواقعية الجديدة. وبين سعيد مرزوق وأعلام التجديد من قبل مثل يوسف شاهين وتوفيق صالح ثم قدم الفيلم الاجتماعي «أريد حلا، عام 1975م» الذي فيه التزم بالبناء التقليدي للفيلم إلى حد كبير رغم أنه لم يفعل ذلك في الفليمين السابقين وكان طليعيا في كل شيء في الفيلم من حركة الكاميرا إلى الضوء إلى المونتاج إلى الموسيقى . في كل مفردات الفيلم . أما في «أريد حلا» فكان إدراكه لتقديمه قضية اجتماعية عن حقوق المرأة هو ما جعله يفعل ذلك وكان الفيلم صرخة وجدت صداها في المجتمع وإلى الآن صار شعار المرأة تقريبا «أريد حلا» رغم ما اكتسبته من حقوق بعد هذا الفيلم. في العام التالي 1976 قدم سعيد مرزوق أول فيلم عن الفساد الذي ضرب في البلاد بسبب السياسة الاقتصادية للسادات، سياسة الانفتاح الاقتصادي، وظهور طبقة من رجال الأعمال تأتي الأخبار عن هروب الكثير منهم كل يوم بأموال البنوك وعن التحالف بينهم وبين نظام الحكم لتسهيل فسادهم. كان ذلك في عز قوة دولة السادات. قدم الفيلم الفساد والمفسدين الذين جعلوا قوتهم على أساس المال والجنس والسلطة. أحدث الفيلم ضجة كبيرة بسبب مشاهده الجنسية المثيرة والجريئة وعوقب رجال الرقابة الذين وافقوا على عرضه وكان من بينهم المرحوم كاتب القصة مصطفي أبو النصر أحد المحبين والمتحلقين حول نجيب محفوظ. كان واضحا أن المسألة ليست في الجنس، على العكس كانت السينما أيضا تقدم مشاهد أكثر إثارة لكن في أفلام لايقف عندها أحد لأنها لا تتعرض لأصحاب السلطان أو النفوذ. تم رفع الفيلم من السينمات وأعيد بعد حذف مشاهد منه وتقريبا منع عرضه لكن الفيلم دق ناقوس الخطر مما يحدث في مصر وكان الأول والأشجع لأنه لم يكن عن عصر مضى لكن عن العصر نفسه .. لسعيد مرزوق أفلام كثيرة بعد ذلك. حوالى عشرة منها أيام الرعب، والمغتصبون، وهدى ومعالي الوزير، وقصاقيص العشاق، والمرأة والساطور على سبيل المثال. لم يبتعد سعيد مرزوق عن قضايا المجتمع حوله ولم يتوقف عن التجديد في التصوير والمونتاج. كان تقريبا يفعل كل شيء بنفسه.
تدهورت السينما شيئا فشيئا في مصر حتى كادت تنعدم الآن. وشهدت الثمانينيات سينما المقاولات ثم لم يعد لدينا لا مقاولات ولا غيره وظل المخرجون الأحدث من سعيد مثل داود عبد السيد وخيري بشارة ومحمد خان وغيرهم هم المنارات المقاومة لانهيار ذلك الفن مع سعيد مرزوق حتى توقف الرجل العظيم وأصابه المرض الذي بدا يدهمه سرا لا يعرفه أحد.. في مهرجان الأفلام الأخير في مصر الذي عقد منذ عدة شهور تم تكريم سعيد مرزوق وكنت أحد أفراد لجنة تحكيم الأفلام الروائية . رأيت في المهرجان أفلاما كثيرة جميلة منها طبعا «رسائل البحر» لداود عبد السيد و «بنتين من مصر» لمحمد أمين.. وغيرها أفلام كثيرة لشباب جديدين ، وكلها مثل حبات الذهب تلقي بها في ماء راكد هو السينما المصرية الآن ورأيت أيضا سعيد مرزوق يدخل إلى خشبة المسرح على عربة لايستطيع المشي. عرفته بمرضه وتألمت جدا . وعرفت أخيرا أنه لم يحصل على الجائزة، وتألمت أكثر رغم أنه من المؤكد لايفكر فيها، هو راهب الفن الذي قضى حياته منذ الطفولة في محرابه والمجدد الكبير الذي أشعل السينما المصرية بالجرأة في موضوعاتها وبنائها الفني من الحوار إلى التصوير إلى المونتاج..
تحية عظمى لهذا الفنان الكبير العظيم الذي سيظل اسمه محفورا في تاريخ السينما العربية بحروف من ذهب وياقوت وألماس وماشئت من كل نفيس.
ibrahimabdelmeguid@hotmail.com
طيب ما المسألة الآن ؟، المسألة هي أن الجائزة ذكرتني بهذا المخرج الفذ الذي حين ظهر في السينما بفيلم «زوجتي والكلب» كان ظاهرة كبيرة في التجديد في هذا الفن العظيم . وإذا عرفنا أن سعيد مرزوق لم يدرس السينما وإن أحبها مبكرا وكان منزل أسرته مجاورا لاستوديو مصر بحي الهرم وألقى به الحظ وهو في العاشرة من عمره ليرى المخرج العالمي سيسيل دي ميل وهو يخرج في مصر فيلم الوصايا العشر في صحراء الهرم في بداية الخمسينات .. سعيد مرزوق من مواليد 1940 . اندفع يقرأ عن هذا الفن الذي لم يدرسه كما قلت إنما كانت السينما نفسها هي مدرسته . اشتغل مساعدا لزميله المخرج الشاب إبراهيم الشقنقيري. ثم أخرج أفلاما قصيرة كثيرة نال بعضها جوائز في مهرجانات عالمية مثل (أعداء الحرية ــ 1967)، و (طبول ــ 1968).. ونال أيضا جائزة الدولة في الإخراج والتصوير والمونتاج في ذلك العام. كما أنه قام بإخراج فيلم (دموع السلام ــ 1970) الذي أختير كأفضل فيلم عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. لكن الطفرة هي التي جعلته حديث السينما والناس، وكان الفيلم الروائي العظيم زوجتي والكلب . كان ذلك عام 1971 ثم تلاه بفيلمه «الخوف عام 1972م». كنا نحن الشباب في ذلك الوقت نقرأ عن الفليمين مقالات لم تنقطع لأعوام في كل الصحف ومقارنات بين سعيد مرزوق والسينما الفرنسية ــ الموجة الجديدة ــ والسينما الإيطالية ــ الواقعية الجديدة. وبين سعيد مرزوق وأعلام التجديد من قبل مثل يوسف شاهين وتوفيق صالح ثم قدم الفيلم الاجتماعي «أريد حلا، عام 1975م» الذي فيه التزم بالبناء التقليدي للفيلم إلى حد كبير رغم أنه لم يفعل ذلك في الفليمين السابقين وكان طليعيا في كل شيء في الفيلم من حركة الكاميرا إلى الضوء إلى المونتاج إلى الموسيقى . في كل مفردات الفيلم . أما في «أريد حلا» فكان إدراكه لتقديمه قضية اجتماعية عن حقوق المرأة هو ما جعله يفعل ذلك وكان الفيلم صرخة وجدت صداها في المجتمع وإلى الآن صار شعار المرأة تقريبا «أريد حلا» رغم ما اكتسبته من حقوق بعد هذا الفيلم. في العام التالي 1976 قدم سعيد مرزوق أول فيلم عن الفساد الذي ضرب في البلاد بسبب السياسة الاقتصادية للسادات، سياسة الانفتاح الاقتصادي، وظهور طبقة من رجال الأعمال تأتي الأخبار عن هروب الكثير منهم كل يوم بأموال البنوك وعن التحالف بينهم وبين نظام الحكم لتسهيل فسادهم. كان ذلك في عز قوة دولة السادات. قدم الفيلم الفساد والمفسدين الذين جعلوا قوتهم على أساس المال والجنس والسلطة. أحدث الفيلم ضجة كبيرة بسبب مشاهده الجنسية المثيرة والجريئة وعوقب رجال الرقابة الذين وافقوا على عرضه وكان من بينهم المرحوم كاتب القصة مصطفي أبو النصر أحد المحبين والمتحلقين حول نجيب محفوظ. كان واضحا أن المسألة ليست في الجنس، على العكس كانت السينما أيضا تقدم مشاهد أكثر إثارة لكن في أفلام لايقف عندها أحد لأنها لا تتعرض لأصحاب السلطان أو النفوذ. تم رفع الفيلم من السينمات وأعيد بعد حذف مشاهد منه وتقريبا منع عرضه لكن الفيلم دق ناقوس الخطر مما يحدث في مصر وكان الأول والأشجع لأنه لم يكن عن عصر مضى لكن عن العصر نفسه .. لسعيد مرزوق أفلام كثيرة بعد ذلك. حوالى عشرة منها أيام الرعب، والمغتصبون، وهدى ومعالي الوزير، وقصاقيص العشاق، والمرأة والساطور على سبيل المثال. لم يبتعد سعيد مرزوق عن قضايا المجتمع حوله ولم يتوقف عن التجديد في التصوير والمونتاج. كان تقريبا يفعل كل شيء بنفسه.
تدهورت السينما شيئا فشيئا في مصر حتى كادت تنعدم الآن. وشهدت الثمانينيات سينما المقاولات ثم لم يعد لدينا لا مقاولات ولا غيره وظل المخرجون الأحدث من سعيد مثل داود عبد السيد وخيري بشارة ومحمد خان وغيرهم هم المنارات المقاومة لانهيار ذلك الفن مع سعيد مرزوق حتى توقف الرجل العظيم وأصابه المرض الذي بدا يدهمه سرا لا يعرفه أحد.. في مهرجان الأفلام الأخير في مصر الذي عقد منذ عدة شهور تم تكريم سعيد مرزوق وكنت أحد أفراد لجنة تحكيم الأفلام الروائية . رأيت في المهرجان أفلاما كثيرة جميلة منها طبعا «رسائل البحر» لداود عبد السيد و «بنتين من مصر» لمحمد أمين.. وغيرها أفلام كثيرة لشباب جديدين ، وكلها مثل حبات الذهب تلقي بها في ماء راكد هو السينما المصرية الآن ورأيت أيضا سعيد مرزوق يدخل إلى خشبة المسرح على عربة لايستطيع المشي. عرفته بمرضه وتألمت جدا . وعرفت أخيرا أنه لم يحصل على الجائزة، وتألمت أكثر رغم أنه من المؤكد لايفكر فيها، هو راهب الفن الذي قضى حياته منذ الطفولة في محرابه والمجدد الكبير الذي أشعل السينما المصرية بالجرأة في موضوعاتها وبنائها الفني من الحوار إلى التصوير إلى المونتاج..
تحية عظمى لهذا الفنان الكبير العظيم الذي سيظل اسمه محفورا في تاريخ السينما العربية بحروف من ذهب وياقوت وألماس وماشئت من كل نفيس.
ibrahimabdelmeguid@hotmail.com