12 عاما مضت على وفاة السيد حبيب محمود أحمد، الرجل الفاضل الكريم.. لن ينسى الناس أعماله ومواقفه التي سطرتها صفحات الحياة الطويلة فهو شخصية نهل من علمها الكثيرون. امتدت حياته إلى الثمانين سنة، إذ بدأ حياته العملية في المجلس الإداري لمنطقة المدينة المنورة، ثم أسند إليه الكثير من المهام خصوصا فيما يتصل بإشرافه على شؤون الحرم النبوي الشريف، وكذلك رئاسته لمجلس الأوقاف بمنطقة المدينة المنورة إلى جانب عضويته في مجالس الأوقاف ومهام أخرى ساهم من خلالها في خدمة أهل الجوار الطاهر.
هو السيد حبيب محمود أحمد كما يقول ابنه الدكتور أحمد.. ولد في شهر ذي القعدة 1338 بالمدينة المنورة. وكان وحيد والديه من الذكور إذ لم ينجب والده غيره من الذكور، إضافة إلى ثلاث من الإناث.. لذلك نستطيع أن نتصور أية رعاية كان يلقاها هذا الابن الوحيد، وبخاصة أن أعمامه كانوا جميعا كما أسلفنا الذكر رجال علم ورجال دين، كما كان والده من العلماء المعدودين في المدينة المنورة، تولى كتابة العدل، ثم تولى القضاء. فلا بد أنه كان يولي الابن كل الرعاية والإشراف التربوي والعلمي الكامل، بالإضافة إلى ما كان يلقاه من رعاية علمية من عمه المؤسس السيد أحمد، وعمه العالم الجليل الداعية السيد حسين أحمد رحمهما الله.. نقول هذا، لأن الفترة التي كانت بين سنة ميلاده وسنة دخوله المدرسة، وهي سنة 1349هـ. كانت كافية لأن يتولى هذا الوالد وهذا العم تعليم ابنهم، وإعداده للالتحاق بالمدرسة.. ولم يمض السيد حبيب في مدرسة العلوم الشرعية غير شهرين، حيث عين والده قاضيا لجدة، فانتقل معه إليها، والتحق فيها بمدرسة الفلاح، فدرس بها ثلاث سنوات.
وحين استعفى والده بناء على طلبه من سلك القضاء سنة 1352هـ.. عاد بأسرته إلى المدينة المنورة، فالتحق الابن بمدرسة العلوم الشرعية ليواصل فيها دراسته، وحرص عمه السيد أحمد -رحمه الله- على أن يتقن حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، فحفظه خلال عام واحد على يد الشيخ حسن تاج الدين، والشيخ عمر توفيق، ثم واصل دراسته حتى عام 1358هـ حيث تخرج في القسم العالمي بالمدرسة.
في هذه الأثناء بدأ عمه السيد أحمد يشعر بأعراض المرض الذي أجبره أخيرا على ملازمة الفراش، فلم يجد من يُنيبه عنه في الحفاظ على المدرسة وإدارة شؤونها غير ابن أخيه السيد حبيب.. فأنابه عنه في تحمل أعبائها ومسؤولياتها برغم صغر سنه، وذلك لما وجده فيه من قدرات خاصة أهلته لديه لهذه الثقة. ثم أوكل إليه هذا العمل بصفة رسمية، ومنحه حق التصرف المطلق بما يراه مناسباً لمجريات العمل بالمدرسة ويضمن استمرارها.. وبهذا استمر السيد حبيب بعد وفاة مؤسس المدرسة -رحمه الله- في العاشر من شوال سنة 1358هـ مديرا للمدرسة، يعمل على تطويرها والتقدم بمسيرتها إلى ما يرفع مكانتها، ويعلي من شأنها، ويهيئ لها ظروف اطراد النمو والتحسن.
إذا كان السيد أحمد قد نال شرف إنشاء هذه المدرسة وقياد مسيرتها، حوالي 18 سنة، وهي السنوات الواقعة بين نشأتها سنة 1340هـ وسنة وفاته رحمه الله عام 1358هـ فإن الله قد ذخر لخليفته السيد حبيب محمود أحمد فضلا آخر، لا يقل شأناً عن شأن الإنشاء والتأسيس. وقد كان من حسن حظ هذه المؤسسة بحق أن يتلقف رايتها هذا الرجل، الذي سهر على مصالحها، وسار بها أشواطاً كبيرة على طريق التأصيل والتطوير، حتى أصبحت تواكب فيما بعد المدرسة العصرية بكل مفاهيمها، وتسير مع أخواتها المدارس التابعة لوزارة المعارف، مع تنافس وتسابق متكافئ لتحقيق الأهداف التعليمية والمقاصد التربوية التي ترسمها الدولة وتخطط سياساتها. والحق يقال: إن تحقيق ذلك لم يكن بالأمر اليسير أو الهين، وقد أمسك السيد حبيب محمود إدارة المدرسة ولم تستكمل المدرسة العقد الثاني من عمرها.
كان السيد حبيب قد تسلم الإدارة وعمارة المدرسة في حاجة إلى الإكمال، فبوجهها انعطاف لا يحسن السكوت عليه ولا إبقاؤه على حالته، وفي شراء القطعة القائمة أمام ذلك الوجه إلى جناحه الجنوبي ميزة إبرازه كله في طراز متحد جميل، وقد وفق بشراء الأرض، ووفق بإقامة البناء عليها، فكان في ذلك بادرة امتداد مادي ملموس.
وضاقت المدرسة بالطلاب والمعلمين، وهذه الخرائب المتداعية من الأربطة والأكواخ والسبل تقوم حوالي المدرسة في ميمنتها وميسرتها، وهي في مناظرها الذرية وموقعها الجميل تبعث الاشمئزاز إلى نفوس الناظرين، ولا يتناسب قيامها بهذا الشكل الأجوف العليل بجانب المسجد النبوي الشريف.
وقد لمس السيد حبيب ما لمسه سلفه، ولذلك فإنه لمبتدئ بالسعي الحثيث في شراء ما تيسر شراؤه باسم المدرسة من هذه الأطلال، التي تأخذ فراغاً واسعاً بدون أية افادة، وتعطل أرضاً فيحاء، وتملأ الجو بأشباحها الكئيبة الباهتة، وأقرب هذه الأطلال وأجدرها بالشراء والبناء هذا الطلل الجاثم شمال الجناح الشمالي للمدرسة، وقد اشتراه السيد حبيب، فكان في ذلك أيضاً امتداد حي مشهود.
وكان سلفه قد جلب باسم المدرسة مطبعة صغيرة من الخارج، وبقيت في صناديقها إلى وفاته، فركب هو أجزاءها بعد ذلك، ورتبها، وصف حروفها في أدراج، وأقامها في إحدى غرف المدرسة الأمامية، وصار يطبع بها مطبوعات المدرسة وبعض المطبوعات الأخرى، فانتفعت المدرسة من مطبوعاتها الداخلية والخارجية، وأنشئت بذلك مطبعة جديدة عاملة في المدينة المنورة. وكان المؤسس قد شرع قبيل وفاته في عمارة ملجأ لإيواء اليتامى المنضمين إلى مدرسته، ولكنه مات قبل إكمالها.
أنجز خليفته السيد حبيب محمود تلك العمارة، ووسعها، وأضاف إليها قطعة كبيرة من الأرض، وأنشأ فيها حديقة، ثم افتتح هذا الملجأ في شهر شعبان، سنة 1364هـ لينال فيه اليتامى ميزة على زملائهم الآخرين، تتمثل في القيام بإطعامهم، وكسوتهم، ومقامهم فيه.. علاوة على ما يشتركون فيه مع أولئك الزملاء، من تحصيل العلم بالمدرسة التي ينتمي إليها هذا الملجأ، وفي ذلك امتداد آخر قيم يجمع بين المادة والروح.
بعد وفاة المؤسس لمدرسة العلوم الشرعية، السيد أحمد الفيض آبادي رحمه الله، عام 1358هـ توجه السيد حبيب بجميع إمكانياته العلمية والمادية والاجتماعية إلى الرقي بالمدرسة، وعمل جهده على أن يكون على مستوى ما توسمه فيه عمه المؤسس، وما توسمته فيه الجهات السامية حين منحته الثقة بتأييد تعيينه.. واستمرت القافلة تسير بإذن الله وفق منهج مرسوم وضع منذ أيام نشأتها الأولى، سنة 1340هـ، وأخذ يتطور حتى وصلت المدرسة إلى ثلاث مراحل في مبنى واحد، والمراحل ا لتي تضمها المدرسة الآن، والتي كانت ثمرة من ثمرات السيد حبيب محمود، الذي جعلها في أحسن حلتها، وأصبحت بحمد الله تواكب المدارس العصرية، وتتسابق متكافئة مع المدارس الأخرى، سواء الحكومية أو الأهلية، لتحقيق الأهداف التعليمية والمقاصد التربوية، إضافة إلى جميع الأنشطة الثقافية والترفيهية، التي ترسمها الدولة وتخطط سياساتها
العين الزرقاء لما لمسه المسؤولون، من رجاحة في الرأي، وحصافة في التفكير، وحسن تصريف في الأمور.. اختاروه للقيام ببعض المهام الرسمية الأخرى، بالإضافة إلى إدارة المدرسة، فقام بها جميعاً أحسن قيام، وبرهن في كل أحواله أنه أهل لذلك الاختيار.. ففي سنة 1362هـ عين عضواً في لجنة العين الزرقاء، ومهمة هذه اللجنة الإشراف الكامل على إدارة العين الزرقاء، وتنظيم أعمالها، وتنمية مواردها المائية بروافدها من الآبار والعيون المجاورة لها، وكان الماء في تلك الفترة ينساب إلى المدينة المنورة منها عبر القنوات المعروفة بالدبول.. وفي سنة 1364هـ انتخب عضوا بالمجلس الإداري بالمدينة المنورة.. وفي سنة 1385هـ وبعد تولي صاحب السمو الملكي الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز رحمه الله إمارة المدينة المنورة حتى 1405هـ. تم انتخاب السيد حبيب نائباً لرئيس المجلس.كما عين رئيساً لمجلس أوقاف منطقة المدينة المنورة في العام نفسه، بموجب القرار الوزاري، رقم (286/ق/م)، وتاريخ 1-7-1387هـ والذي تم بموجبه تشكيل مجلس للأوقاف في منطقة المدينة المنورة، ويشمل: ينبع، والوجه، والجوف، وضباء، والعلا، وتبوك، وتيماء، وبدراً ، والقريات، وأملج.
وفي عام 1386هـ تولى رئاسة الغرفة التجارية، التي تم إنشاؤها آنذاك، فكون أطرها، وأرسى دعائمها، ونهض بها منذ تأسيسها، ولم يغادرها إلا بعد أن شبت واشتد عودها، فكان له بذلك بعد الله فضل تأسيسها بالمدينة المنورة، ورعاية خطواتها الأولى.
في عام 1388هـ كونت اللجنة الشعبية لمجاهدي وشهداء فلسطين بالمدينة المنورة، برئاسة المغفور له، صاحب السمو الملكي، الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز، فعين السيد حبيب نائباً للرئيس فيها، وظل كذلك إلى مستهل عام 1405هـ.
وفي عام 1397هـ تم تكليف السيد حبيب محمود أحمد مشرفاً على دوائر وزارة الأوقاف وشؤبموجب أمر معالي وزير الحج والأوقاف، وفي (24/ 4/ 1406هـ) صدر القرار الوزاري بتعيينه عضواً في الهيئة الإدارية الاستشارية لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.. كما كلف السيد حبيب عام 1375هـ من قبل وزارة الداخلية مشرفاً على السجون والسجناء بالمدينة المنورة، واستمر في هذا العمل حتى سنة 1383هـ.
وفي عام 1412هـ صدر الأمر الملكي بالموافقة على اشتراك السيد حبيب محمود في الدعوة المرسلة من وزارة الأوقاف، من جمهورية مصر العربية، في الاحتفال الذي أقامته الوزارة بالقاهرة يوم 12-3-1412هـ لتكريم العلماء الذين أسهموا بدور في مجال السيرة النبوية.. ومنح السيد حبيب في تلك الناسبة وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، من الرئيس المصري الاسبق حسني مبارك.
إن الحقيقة التي لا تغيب عن أحد ممن عاصر السيد حبيب محمود يرحمه الله.. يرى أنه اهتم منذ مقتبل عمره بحب المعرفة وطلب العلم وخدمته.. فأقبل وهو في صباه على روافد العلم ينهل منها بلا ارتواء، حتى تجمعت لديه تصانيف عظيمة من أمهات الكتب الشرعية والتاريخية، إضافة إلى عشرات آلاف المراجع المطبوعة والمخطوطة في العلوم المتنوعة، القديم منها والحديث في جميع التخصصات.وقد جعلها جميعا رحمه الله في خدمة أهل العلم وطلابه، إضافة إلى محتويات المكتبة لمجموعة كبيرة وثمينة جداً من نسخ مخطوطة ومطبوعة للقرآن الكريم، والتي حرص الوالد على جمعها من أماكن مختلفة من العالم، تم كتابة بعضها في القرن الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر، وأقدم نسخة تمت كتابتها في عام 768هـ. وتوجد المكتبة بالمدينة المنورة ولا تزال تستقبل مرتاديها كل يوم
حملت الصحف الصادرة يوم الجمعة 10 رمضان 1423هـ خبرا حزينا مفاده أن المدينة المنورة ودعت يوم الأربعاء، الثامن من رمضان، عام 1423هـ الموافق 13-11-2002م أحد أبنائها الأبرار، الذي أمضى حياته في حب الخير وأهله، وهو السيد حبيب محمود أحمد، عضو مؤسسة المدينة المنورة للصحافة، وأحد مؤسسيها الأوائل، بعد أن أدخل قبل حوالي أسبوعين من التاريخ السابق إلى المستشفى، إثر حالة غيبوبة قرر معها الفريق الطبي المصاحب لمراحل علاجه إدخاله للعناية المركزة.
وفي الطابق الثالث من المستشفى تواجد أبناء الفقيد الدكتور أحمد، ومحمد، وعدنان، ومدير مكتب الفقيد محمد عثمان، حيث لم تهدأ طوال أيام تواجده في المستشفى اتصالات الاطمئنان على صحته، من عدد كبير من أصحاب السمو الملكي، الأمراء، والوزراء، والمسؤولين في الدولة، ورجال العلم والفضيلة، ووجهاء وأعيان المدينة المنورة، الذين كان السيد حبيب رحمه الله يرتبط معهم بأواصر من الألفة والمحبة.. وقبل غروب شمس الثامن من رمضان المبارك، وفي الأيام العشر الأولى التي تتسابق لها النفوس المؤمنة من الحنان المنان.. فاضت روحه إلى بارئها قبل أن يرفع أذان المغرب.
وقال عبدالغني الانصاري رئيس لجنة السياحة في الغرفة التجارية الصناعية في المدينة المنورة: إن السيد حبيب -رحمه الله- من الرعيل الأول الذين خدموا المدينة المنورة في كافة المجالات وهو أول رئيس للغرفة التجارية بالمدينة المنورة، وله أياد بيضاء في العمل الاقتصادي بمنطقة المدينة المنورة وخدمها وخدم أبناءها ونقل عمل الغرفة التجارية -في حينه- نقلة نوعية مؤثرة سلطت الضوء على العمل التجاري في المدينة المنورة بشكل كبير.
يوسف الميمني رئيس الغرفة التجارية بالمدينة سابقا وعضو مجلس الشورى سابقا قال: السيد حبيب من الرعيل الأول الذين خدموا المدينة المنورة وله أيدٍ بيضاء وهو من الذين آثروا على أنفسهم لما هو في صالح كل عمل خيري يفيد المدينة منذ أن كان مديرا للأوقاف ثم رئيسا لمجلس الأوقاف ثم أول رئيس للغرفة التجارية بالمدينة وقد استفادت المدينة المنورة من أطروحاته الاقتصادية وجهوده في هذا المجال الذي نبغ فيه وله بصمات واضحة تم من خلالها تأسيس العمل التجاري بالمدينة المنورة بشكله الحالي الذي تطور مع الأيام.
فيما وصف الدكتور محمد الأمين الخطري مدير فرع الشؤون الإسلامية بالمدينة المنورة الفقيد بأنه من الأشخاص الذين يشار إليهم بالبنان في خدمة الأوقاف ورعايتها وهو رجل فاضل محب للخير وله الأثر الكبير في تنمية الأوقاف والعمل التجاري في المدينة..
فيما قال خالد دقل الاقتصادي المعروف إن السيد حبيب خدم المدينة وله إسهامات واضحة وملموسة ونحن معشر الاقتصاديين استفدنا منه كثيرا عندما كان رئيسا للغرفة التجارية بالمدينة حيث وضع أسس العمل التجاري في المدينة المنورة.