خطاب غير تقليدي يعكس ضمير الأمة وتطلعاتها ويرسم خارطة طريق لمستقبلها، من خلال تشخيص دقيق وصريح لواقعها الحاضر.. وتشريح جراحي لمشوار مسيرتها التاريخية الحديثة. تلك هي أهم ملامح خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في كلمته التي ألقاها، أمس الأول، عند افتتاح مؤتمر القمة العربي التاسع عشر، الذي اختتم جلساته يوم أمس الخميس.لم يشهد العرب، طوال تجربة مؤتمرات القمة، التي بدأت منذ بداية تشكيلهم لنظامهم الرسمي الحديث، عقب الحرب الكونية الثانية، مثل مؤتمر قمة الرياض هذا، لا في مستوى تمثيله، من حيث حضور زعماء الأمة وقادتها.. ولا من حيث الإعداد له، لضمان أعلى فرص النجاح.. ولا من حيث ثراء جدول أعماله بالمواضيع ذات الصبغة القومية، التي احتشد لها فريق كبير من أعضاء الوفود المشاركة لصياغتها وترتيب أولوياتها ووضع آليات تنفيذها وتتبع الأخذ بها.. ولا في استراتيجية القرارات التي صدرت عن القمة، وتعكس مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك، تختلف تماماً عن خبرة العرب في مؤتمرات القمة العربية، وآليات العمل العربي المشترك ومؤسساته.
يبقى خطاب الملك عبدالله بن عبد العزيز في افتتاح القمة، العلامة الفارقة، التي تنبئ بدخول النظام العربي مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك تتزايد من خلال حركة مؤسساته الإقليمية ونشاط فعالياته المهمة، احتمالات اقتراب العرب من تحقيق أحلامهم القومية، التي وإن خبا بريق استراتيجية ارتباطها بمصالح العرب وأمنهم القومي، وراء كواليس مؤسسات النظام العربي العاجزة، أو في ثنايا السياسة العربية الرسمية الملتوية، أو بفعل مؤامرات خصوم العرب وأعدائهم الإقليميين والدوليين، الا ان جذوتها لم تخب أبداً في ضمير الأمة ووجدانها، انتظاراً لأن تستعيد حركة التاريخ مسارها الطبيعي، ويعود للعرب ماضي سؤددهم.. ويستعيدون مواقعهم التاريخية المتقدمة، التي كان لها أكبر الأثر في غناء التراث الإنساني للبشرية، نحو الحضارة والتقدم والسلام.
الملك عبد الله بن عبد العزيز في كلمته التي ألقاها أمام الزعماء العرب في القمة.. وأمام ضيوف العرب من بعض زعماء العالم الإسلامي وقادته.. ووفود عالية المستوى من كبرى المنظمات الإقليمية، مثل الاتحاد الأوربي.. وبحضور الأمين العام للأمم المتحدة... كان الملك عبدالله في تلك الكلمة صريحاً، لأعلى درجات المكاشفة والشفافية.. وكان ناقداً لحد القسوة على الذات العربية.. وكان مشخصاً دقيقاً لأوجاع النظام العربي وأسقامه.. وكان ممثلاً مخلصاً لهموم وتطلعات المواطن العربي، من الخليج إلى المحيط.. وكان معبراً عن ضمير الأمة ووجدانها، طوال تاريخها. ومع ذلك كان الملك عبد الله متفائلاً، لأقصى درجات التفاؤل وكأنه يبصر بصيص أمل في نهاية النفق، يكاد لا يراه أحد غيره... ولكنه، في ثنايا خطابه كصناعي التاريخ العظام، تتراءى له حركة التاريخ وهي تطوي حقب مسيرتها أمام ناظريه وضميره، تتجه إلى غايتها النبيلة، ليسود السلام والحب.. وينتصر الحق، في صراعه الأبدي على الظلم والاستبداد والتخلف والجهل.
القسوة على الذات
لم يكن الملك عبد الله ذرائعياً، كما هو ديدن بعض الزعماء العرب، عندما يواجهون الأمة بإخفاقاتهم، التي حالت دون تحقيق حلم الأمة في الوحدة. والتكامل.. ومجابهة مؤامرات الأعداء وتدابير الخصوم، حتى أضحت الأمة أرضاً، بلا سيادة.. وأوطان بلا كرامة.. وشعوباً، بلا رابط قومي يجمعها.. ودول بين زعاماتها من الخلاف والصراع، أكثر مما بينها من الوفاق والتضامن.
لم يعلق الملك عبد الله أسباب التردي في أوضاع العالم العربي، حتى عادت جحافل الاستعمار من جديد لتحتل أرض العرب، بعدما رحلت عنها، وحتى أضحت سيادة العرب على أوطانها عرضة للتدخلات الأجنبية، بكل أشكالها، لم يعلق ـ حفظه الله ـ أياً من تلك المظاهر، التي كادت تذهب ما بقي من مظاهر استقلال الدول العربية، لا على المؤامرات الدولية.. ولا على أطماع الدول الكبرى.. ولا على طبيعة حركة السياسة الدولية في النظام الدولي الجديد والقديم... ليس على أيٍ من تلك الأعذار والذرائع ألقى الملك عبد الله باللائمة تجاه أوضاع الأمة المتردية، التي عادةً ما يستخدمها قادة العرب، لتبرير العجز عن صيانة هموم الأمة.. واستمراء اعتمادهم على إمكاناتهم المحدودة والمتواضعة، بعيداً عن تفعيل عمل عربي مشترك جماعي فاعل وكفؤ.
الملك عبد الله بن عبد العزيز، كان صريحاً في تشخيص الداء.. ودقيقاً في تحديد مكمن العلة. ضعف العرب وتشرذهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس، كل ذلك أولاً وأخيراً راجع، في رأيه حفظه الله، لقادة العرب أنفسهم، ولم يستثن أحداً ، بخلافاتهم وصراعاتهم وتجاهلهم لإمكانيات العمل العربي المشترك في السياسة والاقتصاد والأمن، كانوا وراء هذه الأوضاع المتردية التي تعيشها الأمة وتكابدها شعوبها، منذ أن أنشأ العرب نظامهم الرسمي، تحت صيغة الجامعة العربية، منذ أكثر من ستة عقود. لهجة نقدية قاسية لم يعهدها الخطاب الرسمي العربي، ولم تسمعها الأمة، من قبل من قادتها... ولكنها كانت ضرورة، من وجهة نظر الملك عبد الله، لإحداث النقلة النوعية، في حركة وقيم مؤسسات العمل المشترك.. ومن ثَمّ قفزة لابد منها لنقلة نوعية للعرب، من حالة الجزر التي تعيشها، إلى حقبة مد جديدة تنتظرها.
إعادة الاعتبار للجامعة
ليس، أمام القادة العرب، في تغيير مجرى مسيرة التاريخ لتصب في روافد عهودهم وتجري من تحت عروشهم، إلا أن يتعاملوا مع هذه الحقيقة المرة، بمستوى خطورة استمراء تجاهلها وإيجاد مبررات غير صحيحة وغير واقعية وغير حقيقية للواقع المزري الذي تعيشه الأمة، منذ بداية عصرها الحديث، عندما فكر زعماء العرب الأوائل في خيار الجامعة العربية، كأهم ضمانة لمواجهة المستقبل بمستوى تحدياته على سيادة الأمة واستقلال دولها وكرامة شعوبها.
كما أن زعماء العرب، كما قال الملك عبد الله في كلمته الافتتاحية لمؤتمر القمة العربي التاسع عشر في الرياض، أمس الأول، ألا يعلقوا فشل صيغة مشروعهم التكاملي وفرقة كلمتهم وبعدهم عن قيم التضامن العربي ومسؤولياته وفشل تجربتهم التكاملية الإقليمية، على مؤسسة الجامعة العربية. الجامعة العربية كما قال، يحفظه الله، ليست سوى مرآة تعكس واقع العرب السياسي، التي تعكس سياسات الدول الأعضاء ومواقفها المتباينة من دور الجامعة ومدى الالتزام بميثاقها وتقدير مدى الفائدة التي تعود على كلِ عضوٍ من عضويتها، مقارنة بمدى الالتزامات التي تفرضها عليه العضوية في الجامعة العربية.
باختصار: الملك عبد الله يُرجع "فشل "الجامعة في تحقيق التوقعات القومية من حركة مؤسساتها، التي وردت في نصوص ميثاقها، راجع ليس للجامعة العربية، بل لغياب الإرادة السياسية لتفعيل مؤسسات الجامعة من أجل الاضطلاع بما هو موكل إليها في ساحة العمل العربي المشترك. الملك عبد الله، بتشخيصه هذا لضعف مدخلات الجامعة العربية في النظام العربي يرجعه لأعضائها، وليس لمؤسسات الجامعة العربية وأمانتها العامة. جدل تاريخي: كان الزعماء العرب يتفادون حقيقة موضوعه الأساسي، وذلك استمراراً للاستراتيجية الذرائعية التي تعودوا على ترديدها للتهرب من مسئوليتهم التاريخية في تهميش دور الجامعة العربية ومؤسساتها، كمنظمة إقليمية عربية، حتى لا تقوم بما هو منوط بها في نص ميثاقها، بعيداً عن إرادة أعضائها.
لأول مرة، في تاريخ العمل العربي المشترك، ينحاز زعيم عربي في وزن الملك عبد الله، لوجهة النظر السياسية والأكاديمية، التي تتكلم عن غياب الإرادة السياسية لأعضاء الجامعة في تفعيل مؤسسات الجامعة والالتزام بنصوص ميثاقها، كسبب أساسي لفشل المشروع التكاملي الذي تضطلع به الجامعة العربية، في النظام الرسمي العربي. الجامعة العربية، كانت تاريخياً: المشجب الذي يعلق عليه الزعماء العرب، فشل تجربتهم التكاملية وعدم التزامهم، حتى بالقرارات التي يتخذوها في قممهم الدورية والطارئة، لتصب فيما تمثله الجامعة العربية كمؤسسة أممية عربية تضطلع بمسئوليات السياسة والاقتصاد والأمن والتنمية، بصورة جماعية، تتكامل من خلال حركة مؤسساتها، مصالح العرب العليا وأمنهم القومي. إلا أن الملك عبد الله، بانحيازه لهذا التفسير السياسي والأكاديمي لفشل مشروع الجامعة العربية، أنهى جدلاً عقيماً كان يتردد في أروقة وراء كواليس النظام العربي الرسمي، لتحميل الجامعة وزر خطيئة أعضائها.
المصداقية أولاً
لم يتردد الملك عبد الله، في كلمته أن يرجع كل اخفاقات العرب في التعامل مع القضايا الاستراتيجية ذات العلاقة بمصالح العرب العليا وأمنهم القومي، لانعدام مصداقية القادة العرب في أعين شعوبهم، دعك من انعدام مصداقيتهم أمام أعدائهم وخصومهم الإقليميين والدوليين. هناك فرق شاسع يفصل القادة العرب عن شعوبهم، لانعدام المصداقية.. وهناك تجاهل يصل إلى درجة الاستهتار بمصالح العرب العليا وأمنهم القومي، من قبل أعداء العرب وخصومهم الإقليميين والدوليين، كنتيجة مباشرة لافتقار القادة العرب للمصداقية أمام شعوبهم والجدية في التصدي لقضايا العرب المصيرية، التي يعبث بها أعداء العرب وخصومهم الإقليميون والدوليون.
هذا، في رأي الملك عبد الله، هو السبب الرئيس في عدم نجاح العرب في التعامل مع قضيتهم الأولى ( القضية الفلسطينية ).. وهذا يفسر خضوع واحدة من أهم فعاليات النظام العربي ( العراق ) لاحتلال أجنبي غير مشروع، بعد أن ظن العالم العربي أنه نجح في حربه ضد الاستعمار، بعد أن رحل المستعمر الأجنبي من آخر جيوبه الاستعمارية في المنطقة العربية، بداية السبعينات من القرن الماضي.. وهذا يفسر تقاعس العرب عن مسئوليتهم التاريخية، في نصرة الشعب الفلسطيني، بعد أن سحب العدو ومن وراءه البساط من تحت أقدام العرب في إدارة أخطر أزمة تهدد مصالح العرب العليا وأمنهم القومي (أزمة الصراع العربي الإسرائيلي). . وهذا هو الذي أذهب بانتصارات العرب الرئيسية في حروبهم مع إسرائيل، فاستكان العرب إلى مشاريع التسوية، التي تأتي من الخارج، في الوقت الذي لم يتخل فيه العدو الإسرائيلي عن خيار الحرب، في إدارته لحركة الصراع مع العرب.
متى استطاع العرب أن يعيدوا ثقة شعوبهم فيهم، باستعادة مصداقيتهم تجاه قضايا العرب القومية الكبرى.. وتفعيل مؤسسات النظام العربي الرسمي العربي تجاه مستويات متقدمة من التكامل الإقليمي بين العرب، في القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية، ، فإن ذلك سوف يكون له أكبر الأثر في تغيير مواقف الأطراف الخارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية، من مشاريع العرب للتسوية واحترام مطالب العرب المشروعة في أي مشاريع جدية لتسوية الصراع مع إسرائيل.. أو أي خطط للتعامل مع بؤر الصراع الأخرى في المنطقة، مثل منطقة الخليج العربي.. وكذلك أخذ العرب، بجدية أكبر، تجاه أي مشاريع يخطط لها أعداء العرب وخصومهم الإقليميون والدوليون، تجاه المنطقة، بعيداً عن مصالح العرب العليا، وتجاهلاً لمقتضيات الأمن القومي العربي الاستراتيجية.
ويبقى التفاؤل قائماً
الملك عبد الله، في خطابه التاريخي غير التقليدي أمام زعماء العرب وممثلي القوى الإقليمية والدولية الأخرى في قمة الرياض، لم يكن ناقداً وبقسوة لأوضاع العرب وما آل إليه حلمهم في الوحدة والعزة والمنعة، من باب جلد الذات وعقابها، لإظهار يأس الأمة وخيبة أمل شعوبها، في رسالة قد يفهمها، في غير سياقها العرب وغيرهم. الملك عبد الله، في خطابه كان يهدف لصحوة الأمة من سباتها، لتصبح على فجر يوم جديد يعيد إليها أمجادها.. ويضمن لها سؤددها.. ويوقظ مكامن القوة في جسدها وتراثها.. ويبعث فيها روح التحدي والمواجهة والقتال، من جديد.
كلمة الملك عبد الله، حتى تؤتي الغاية منها، يجب أن تكون غير ذرائعية.. وأن تتصف بالنقد القاسي للذات، دون أن تتمادى في جلد الذات، حتى الموت. بالعكس كلمة الملك عبد الله، كان يجب أن تكون بهذه القسوة.. وبهذه الصراحة لشرح أوضاع العرب وأحوالهم.. وبهذا النقد الهادف البناء، حتى تحدث الصدمة المرجوة.. ويثوب العرب إلى رشدهم، من جديد.
من وجهة نظر الملك عبد الله، في تاريخ العرب الطويل، هناك فترات طويلة من الجزر، كانت تسبقها وتتبعها، فترات ليست بقصيرة من المد. وعند أي تحول من حالة الجزر إلى المد، كان لابد للأمة من صحوة تشبه الصدمة، حتى تثوب إلى رشدها، وتستعيد دورها في حركة التاريخ. الملك عبد الله، في كلمته أمام الملوك والأمراء والرؤساء العرب، الذين فوجئوا كما فوجئ الرأي العام العربي بصراحة الكلمة وقسوتها وخروجها عن نص الخطاب السياسي التقليدي التي اعتاد عليه الزعماء العرب، كان يعكس تصوراً استراتيجياً، يستقيه من التاريخ ومن خصال يمتلكها العرب وتفتقر إليها الكثير من أمم الأرض، لضمان التحول من حالة الجزر العاجز الحالية إلى حقبة جديدة من المد المتدفق في تاريخ العرب الحديث.
بكلمات مباشرة استبعد الملك عبد الله استمرار حالة الجزر التي سادت العرب، منذ بداية عصرهم الحديث، مؤكداً: أن العرب يمتلكون تاريخياً مقومات النهوض من جديد، كما حدث تماماً، في فترات المد الطويلة التي واكبت مسيرة العرب التاريخية. قال الملك عبد الله، في إيماءة مباشرة لطمأنة الجميع: الفرقة ليست قدرنا.. والتخلف ليس مصيرنا المحتوم.. كما أن العرب ليست أمة جاهلة، بل هي عاقلة، تستطيع أن تتبصر الفرق بين الحق والباطل.. وليست أمة هينة ولكنها ذات كرامة وعزة، يشهد بها التاريخ.
الحل، في نظره، حفظه الله، في استعادة العرب الثقة في دورهم ومكانتهم في مسيرة التاريخ... فإذا عادت ثقة العرب في أنفسهم، كما قال، يحفظه الله، عادت المصداقية إليهم.. وبعودة المصداقية للعرب تهب رياح الأمل على الأمة، من جديد، لتستعيد الأمة دورها ومكانتها في مسيرة التاريخ، من أجل سلام العالم وأمن البشرية... ويعود علم العروبة مرفرفاً على أرض العرب، رمزاً لعزتهم وعنواناً لكرامتهم وإعلاناً لدورهم التاريخي في مسيرة التاريخ.
كلمة تاريخية، في موقف تاريخي، لرجل تاريخي أرسلته عناية الله ليقود سفينة الأمة إلى بر الأمان وترسو على شاطئ السلام، مكللة بغار العزة.. ومجَلَلةً بوشاح الكرامة، من أجل عزة الأمة وخير البشرية.
يبقى خطاب الملك عبدالله بن عبد العزيز في افتتاح القمة، العلامة الفارقة، التي تنبئ بدخول النظام العربي مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك تتزايد من خلال حركة مؤسساته الإقليمية ونشاط فعالياته المهمة، احتمالات اقتراب العرب من تحقيق أحلامهم القومية، التي وإن خبا بريق استراتيجية ارتباطها بمصالح العرب وأمنهم القومي، وراء كواليس مؤسسات النظام العربي العاجزة، أو في ثنايا السياسة العربية الرسمية الملتوية، أو بفعل مؤامرات خصوم العرب وأعدائهم الإقليميين والدوليين، الا ان جذوتها لم تخب أبداً في ضمير الأمة ووجدانها، انتظاراً لأن تستعيد حركة التاريخ مسارها الطبيعي، ويعود للعرب ماضي سؤددهم.. ويستعيدون مواقعهم التاريخية المتقدمة، التي كان لها أكبر الأثر في غناء التراث الإنساني للبشرية، نحو الحضارة والتقدم والسلام.
الملك عبد الله بن عبد العزيز في كلمته التي ألقاها أمام الزعماء العرب في القمة.. وأمام ضيوف العرب من بعض زعماء العالم الإسلامي وقادته.. ووفود عالية المستوى من كبرى المنظمات الإقليمية، مثل الاتحاد الأوربي.. وبحضور الأمين العام للأمم المتحدة... كان الملك عبدالله في تلك الكلمة صريحاً، لأعلى درجات المكاشفة والشفافية.. وكان ناقداً لحد القسوة على الذات العربية.. وكان مشخصاً دقيقاً لأوجاع النظام العربي وأسقامه.. وكان ممثلاً مخلصاً لهموم وتطلعات المواطن العربي، من الخليج إلى المحيط.. وكان معبراً عن ضمير الأمة ووجدانها، طوال تاريخها. ومع ذلك كان الملك عبد الله متفائلاً، لأقصى درجات التفاؤل وكأنه يبصر بصيص أمل في نهاية النفق، يكاد لا يراه أحد غيره... ولكنه، في ثنايا خطابه كصناعي التاريخ العظام، تتراءى له حركة التاريخ وهي تطوي حقب مسيرتها أمام ناظريه وضميره، تتجه إلى غايتها النبيلة، ليسود السلام والحب.. وينتصر الحق، في صراعه الأبدي على الظلم والاستبداد والتخلف والجهل.
القسوة على الذات
لم يكن الملك عبد الله ذرائعياً، كما هو ديدن بعض الزعماء العرب، عندما يواجهون الأمة بإخفاقاتهم، التي حالت دون تحقيق حلم الأمة في الوحدة. والتكامل.. ومجابهة مؤامرات الأعداء وتدابير الخصوم، حتى أضحت الأمة أرضاً، بلا سيادة.. وأوطان بلا كرامة.. وشعوباً، بلا رابط قومي يجمعها.. ودول بين زعاماتها من الخلاف والصراع، أكثر مما بينها من الوفاق والتضامن.
لم يعلق الملك عبد الله أسباب التردي في أوضاع العالم العربي، حتى عادت جحافل الاستعمار من جديد لتحتل أرض العرب، بعدما رحلت عنها، وحتى أضحت سيادة العرب على أوطانها عرضة للتدخلات الأجنبية، بكل أشكالها، لم يعلق ـ حفظه الله ـ أياً من تلك المظاهر، التي كادت تذهب ما بقي من مظاهر استقلال الدول العربية، لا على المؤامرات الدولية.. ولا على أطماع الدول الكبرى.. ولا على طبيعة حركة السياسة الدولية في النظام الدولي الجديد والقديم... ليس على أيٍ من تلك الأعذار والذرائع ألقى الملك عبد الله باللائمة تجاه أوضاع الأمة المتردية، التي عادةً ما يستخدمها قادة العرب، لتبرير العجز عن صيانة هموم الأمة.. واستمراء اعتمادهم على إمكاناتهم المحدودة والمتواضعة، بعيداً عن تفعيل عمل عربي مشترك جماعي فاعل وكفؤ.
الملك عبد الله بن عبد العزيز، كان صريحاً في تشخيص الداء.. ودقيقاً في تحديد مكمن العلة. ضعف العرب وتشرذهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس، كل ذلك أولاً وأخيراً راجع، في رأيه حفظه الله، لقادة العرب أنفسهم، ولم يستثن أحداً ، بخلافاتهم وصراعاتهم وتجاهلهم لإمكانيات العمل العربي المشترك في السياسة والاقتصاد والأمن، كانوا وراء هذه الأوضاع المتردية التي تعيشها الأمة وتكابدها شعوبها، منذ أن أنشأ العرب نظامهم الرسمي، تحت صيغة الجامعة العربية، منذ أكثر من ستة عقود. لهجة نقدية قاسية لم يعهدها الخطاب الرسمي العربي، ولم تسمعها الأمة، من قبل من قادتها... ولكنها كانت ضرورة، من وجهة نظر الملك عبد الله، لإحداث النقلة النوعية، في حركة وقيم مؤسسات العمل المشترك.. ومن ثَمّ قفزة لابد منها لنقلة نوعية للعرب، من حالة الجزر التي تعيشها، إلى حقبة مد جديدة تنتظرها.
إعادة الاعتبار للجامعة
ليس، أمام القادة العرب، في تغيير مجرى مسيرة التاريخ لتصب في روافد عهودهم وتجري من تحت عروشهم، إلا أن يتعاملوا مع هذه الحقيقة المرة، بمستوى خطورة استمراء تجاهلها وإيجاد مبررات غير صحيحة وغير واقعية وغير حقيقية للواقع المزري الذي تعيشه الأمة، منذ بداية عصرها الحديث، عندما فكر زعماء العرب الأوائل في خيار الجامعة العربية، كأهم ضمانة لمواجهة المستقبل بمستوى تحدياته على سيادة الأمة واستقلال دولها وكرامة شعوبها.
كما أن زعماء العرب، كما قال الملك عبد الله في كلمته الافتتاحية لمؤتمر القمة العربي التاسع عشر في الرياض، أمس الأول، ألا يعلقوا فشل صيغة مشروعهم التكاملي وفرقة كلمتهم وبعدهم عن قيم التضامن العربي ومسؤولياته وفشل تجربتهم التكاملية الإقليمية، على مؤسسة الجامعة العربية. الجامعة العربية كما قال، يحفظه الله، ليست سوى مرآة تعكس واقع العرب السياسي، التي تعكس سياسات الدول الأعضاء ومواقفها المتباينة من دور الجامعة ومدى الالتزام بميثاقها وتقدير مدى الفائدة التي تعود على كلِ عضوٍ من عضويتها، مقارنة بمدى الالتزامات التي تفرضها عليه العضوية في الجامعة العربية.
باختصار: الملك عبد الله يُرجع "فشل "الجامعة في تحقيق التوقعات القومية من حركة مؤسساتها، التي وردت في نصوص ميثاقها، راجع ليس للجامعة العربية، بل لغياب الإرادة السياسية لتفعيل مؤسسات الجامعة من أجل الاضطلاع بما هو موكل إليها في ساحة العمل العربي المشترك. الملك عبد الله، بتشخيصه هذا لضعف مدخلات الجامعة العربية في النظام العربي يرجعه لأعضائها، وليس لمؤسسات الجامعة العربية وأمانتها العامة. جدل تاريخي: كان الزعماء العرب يتفادون حقيقة موضوعه الأساسي، وذلك استمراراً للاستراتيجية الذرائعية التي تعودوا على ترديدها للتهرب من مسئوليتهم التاريخية في تهميش دور الجامعة العربية ومؤسساتها، كمنظمة إقليمية عربية، حتى لا تقوم بما هو منوط بها في نص ميثاقها، بعيداً عن إرادة أعضائها.
لأول مرة، في تاريخ العمل العربي المشترك، ينحاز زعيم عربي في وزن الملك عبد الله، لوجهة النظر السياسية والأكاديمية، التي تتكلم عن غياب الإرادة السياسية لأعضاء الجامعة في تفعيل مؤسسات الجامعة والالتزام بنصوص ميثاقها، كسبب أساسي لفشل المشروع التكاملي الذي تضطلع به الجامعة العربية، في النظام الرسمي العربي. الجامعة العربية، كانت تاريخياً: المشجب الذي يعلق عليه الزعماء العرب، فشل تجربتهم التكاملية وعدم التزامهم، حتى بالقرارات التي يتخذوها في قممهم الدورية والطارئة، لتصب فيما تمثله الجامعة العربية كمؤسسة أممية عربية تضطلع بمسئوليات السياسة والاقتصاد والأمن والتنمية، بصورة جماعية، تتكامل من خلال حركة مؤسساتها، مصالح العرب العليا وأمنهم القومي. إلا أن الملك عبد الله، بانحيازه لهذا التفسير السياسي والأكاديمي لفشل مشروع الجامعة العربية، أنهى جدلاً عقيماً كان يتردد في أروقة وراء كواليس النظام العربي الرسمي، لتحميل الجامعة وزر خطيئة أعضائها.
المصداقية أولاً
لم يتردد الملك عبد الله، في كلمته أن يرجع كل اخفاقات العرب في التعامل مع القضايا الاستراتيجية ذات العلاقة بمصالح العرب العليا وأمنهم القومي، لانعدام مصداقية القادة العرب في أعين شعوبهم، دعك من انعدام مصداقيتهم أمام أعدائهم وخصومهم الإقليميين والدوليين. هناك فرق شاسع يفصل القادة العرب عن شعوبهم، لانعدام المصداقية.. وهناك تجاهل يصل إلى درجة الاستهتار بمصالح العرب العليا وأمنهم القومي، من قبل أعداء العرب وخصومهم الإقليميين والدوليين، كنتيجة مباشرة لافتقار القادة العرب للمصداقية أمام شعوبهم والجدية في التصدي لقضايا العرب المصيرية، التي يعبث بها أعداء العرب وخصومهم الإقليميون والدوليون.
هذا، في رأي الملك عبد الله، هو السبب الرئيس في عدم نجاح العرب في التعامل مع قضيتهم الأولى ( القضية الفلسطينية ).. وهذا يفسر خضوع واحدة من أهم فعاليات النظام العربي ( العراق ) لاحتلال أجنبي غير مشروع، بعد أن ظن العالم العربي أنه نجح في حربه ضد الاستعمار، بعد أن رحل المستعمر الأجنبي من آخر جيوبه الاستعمارية في المنطقة العربية، بداية السبعينات من القرن الماضي.. وهذا يفسر تقاعس العرب عن مسئوليتهم التاريخية، في نصرة الشعب الفلسطيني، بعد أن سحب العدو ومن وراءه البساط من تحت أقدام العرب في إدارة أخطر أزمة تهدد مصالح العرب العليا وأمنهم القومي (أزمة الصراع العربي الإسرائيلي). . وهذا هو الذي أذهب بانتصارات العرب الرئيسية في حروبهم مع إسرائيل، فاستكان العرب إلى مشاريع التسوية، التي تأتي من الخارج، في الوقت الذي لم يتخل فيه العدو الإسرائيلي عن خيار الحرب، في إدارته لحركة الصراع مع العرب.
متى استطاع العرب أن يعيدوا ثقة شعوبهم فيهم، باستعادة مصداقيتهم تجاه قضايا العرب القومية الكبرى.. وتفعيل مؤسسات النظام العربي الرسمي العربي تجاه مستويات متقدمة من التكامل الإقليمي بين العرب، في القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية، ، فإن ذلك سوف يكون له أكبر الأثر في تغيير مواقف الأطراف الخارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية، من مشاريع العرب للتسوية واحترام مطالب العرب المشروعة في أي مشاريع جدية لتسوية الصراع مع إسرائيل.. أو أي خطط للتعامل مع بؤر الصراع الأخرى في المنطقة، مثل منطقة الخليج العربي.. وكذلك أخذ العرب، بجدية أكبر، تجاه أي مشاريع يخطط لها أعداء العرب وخصومهم الإقليميون والدوليون، تجاه المنطقة، بعيداً عن مصالح العرب العليا، وتجاهلاً لمقتضيات الأمن القومي العربي الاستراتيجية.
ويبقى التفاؤل قائماً
الملك عبد الله، في خطابه التاريخي غير التقليدي أمام زعماء العرب وممثلي القوى الإقليمية والدولية الأخرى في قمة الرياض، لم يكن ناقداً وبقسوة لأوضاع العرب وما آل إليه حلمهم في الوحدة والعزة والمنعة، من باب جلد الذات وعقابها، لإظهار يأس الأمة وخيبة أمل شعوبها، في رسالة قد يفهمها، في غير سياقها العرب وغيرهم. الملك عبد الله، في خطابه كان يهدف لصحوة الأمة من سباتها، لتصبح على فجر يوم جديد يعيد إليها أمجادها.. ويضمن لها سؤددها.. ويوقظ مكامن القوة في جسدها وتراثها.. ويبعث فيها روح التحدي والمواجهة والقتال، من جديد.
كلمة الملك عبد الله، حتى تؤتي الغاية منها، يجب أن تكون غير ذرائعية.. وأن تتصف بالنقد القاسي للذات، دون أن تتمادى في جلد الذات، حتى الموت. بالعكس كلمة الملك عبد الله، كان يجب أن تكون بهذه القسوة.. وبهذه الصراحة لشرح أوضاع العرب وأحوالهم.. وبهذا النقد الهادف البناء، حتى تحدث الصدمة المرجوة.. ويثوب العرب إلى رشدهم، من جديد.
من وجهة نظر الملك عبد الله، في تاريخ العرب الطويل، هناك فترات طويلة من الجزر، كانت تسبقها وتتبعها، فترات ليست بقصيرة من المد. وعند أي تحول من حالة الجزر إلى المد، كان لابد للأمة من صحوة تشبه الصدمة، حتى تثوب إلى رشدها، وتستعيد دورها في حركة التاريخ. الملك عبد الله، في كلمته أمام الملوك والأمراء والرؤساء العرب، الذين فوجئوا كما فوجئ الرأي العام العربي بصراحة الكلمة وقسوتها وخروجها عن نص الخطاب السياسي التقليدي التي اعتاد عليه الزعماء العرب، كان يعكس تصوراً استراتيجياً، يستقيه من التاريخ ومن خصال يمتلكها العرب وتفتقر إليها الكثير من أمم الأرض، لضمان التحول من حالة الجزر العاجز الحالية إلى حقبة جديدة من المد المتدفق في تاريخ العرب الحديث.
بكلمات مباشرة استبعد الملك عبد الله استمرار حالة الجزر التي سادت العرب، منذ بداية عصرهم الحديث، مؤكداً: أن العرب يمتلكون تاريخياً مقومات النهوض من جديد، كما حدث تماماً، في فترات المد الطويلة التي واكبت مسيرة العرب التاريخية. قال الملك عبد الله، في إيماءة مباشرة لطمأنة الجميع: الفرقة ليست قدرنا.. والتخلف ليس مصيرنا المحتوم.. كما أن العرب ليست أمة جاهلة، بل هي عاقلة، تستطيع أن تتبصر الفرق بين الحق والباطل.. وليست أمة هينة ولكنها ذات كرامة وعزة، يشهد بها التاريخ.
الحل، في نظره، حفظه الله، في استعادة العرب الثقة في دورهم ومكانتهم في مسيرة التاريخ... فإذا عادت ثقة العرب في أنفسهم، كما قال، يحفظه الله، عادت المصداقية إليهم.. وبعودة المصداقية للعرب تهب رياح الأمل على الأمة، من جديد، لتستعيد الأمة دورها ومكانتها في مسيرة التاريخ، من أجل سلام العالم وأمن البشرية... ويعود علم العروبة مرفرفاً على أرض العرب، رمزاً لعزتهم وعنواناً لكرامتهم وإعلاناً لدورهم التاريخي في مسيرة التاريخ.
كلمة تاريخية، في موقف تاريخي، لرجل تاريخي أرسلته عناية الله ليقود سفينة الأمة إلى بر الأمان وترسو على شاطئ السلام، مكللة بغار العزة.. ومجَلَلةً بوشاح الكرامة، من أجل عزة الأمة وخير البشرية.