غريب أمر هؤلاء الذين يسألونك كلما التقيت بهم: ماذا كتبت عن غزة؟ وسبق لهم أن سألوك في مناسبات سابقة عما كتبته عن حروب العراق وفلسطين ولبنان، وصولا إلى انتحار البوعزيزي وما استتبعه من ثورات الربيع العربي التي تكاد تصبح صراعا على المغانم بين أنظمة الاستبداد العربي وبين الأصوليات التكفيرية المختلفة. قد يكون سؤال البعض بريئا تمام البراءة ومتصلا بالفكرة العربية السائدة حول دور الشاعر السياسي والاجتماعي والأخلاقي في أزمنة القهر والخوف والجوع، كما في أزمنة الحروب والكوارث. لا بل إن البعض يذهبون أكثر من ذلك فيطلبون من الشعراء أن يكتبوا قصائد حول الغلاء الفاحش أو قوانين الإيجارات الجائرة أو الفساد المستشري. لكن البعض الآخر يضمر في داخله افتئاتا على الشعراء والفنانين ومحاولة متعمدة لاتهامهم بالتقصير والتقاعس والاستنكاف عن نصرة شعوبهم المظلومة في لحظات المواجهة مع الخطر. وما يتحكم بهذا البعض في الواقع ليس الدفاع عن المقهورين، وهو ما يحتاج إلى سلاح آخر أكثر ملموسية من الشعر والفن، بل شيء من عقد النقص والشعور بالدونية والرغبة المضمرة في تحطيم الرموز المبدعة وفضح «مثالبها» وعيوبها وفرديتها المرضية.
لا أدافع هنا عن المبدعين والشعراء بالمطلق، ولا أبرئ العديدين من شبهة الكسل أو التعالي أو إشاحة الوجه عن كل ما يتعلق بالهم الوطني والاجتماعي والقومي، ولكن ما أدافع عنه هو حرية الكاتب وحقه في الصمت أو الكلام، في الصراخ أو الإخلاد إلى السكينة. فقد يجد البعض ما يقوله أثناء الحدث وبعيد حصوله بقليل. وقد يجد البعض ضالتهم في النص السياسي التحريضي، كما في الأغنية والهتاف والنشيد.
وقد ينجح الألم والانفعال المباشر في إخراج الكلمات من ظلمتها ودفعها إلى الورقة البيضاء. لكن أحدا بالمقابل لا يملك إدانة الكتاب الذين يخلدون إلى الصمت في لحظات الحزن القصوى والتمزق الكابوسي. وسواء كان الأمر طوعيا كما هو حال الصمت الذي يرافق جلسات التعزية بالموتى، أو كان ناجما عن عجز المبدع عن الكتابة بفعل الهول الذي يصيب الألسنة بالتأتأة والأقلام بالخرس، فإن أحدا لا يملك الحق في إكراه الكاتب على الكتابة «غب الطلب»، على طريقة بعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية.
إن أحدا لا يجادل في كون المعاناة الإنسانية على أنواعها تقف وراء الكثير من الروائع الفنية والشعرية، لكن الفنانين وحدهم منوطون باختيار الوقت الملائم للتعبير عما يعتمل في دواخلهم من هواجس وإرهاصات. وفي اللحظات الأشد قتامة حيث تسقط المباني على رؤوس أهلها العزل وتكتظ الأرصفة بالجثث المكدسة بعضها فوق بعض ويبحث الأطفال عبثا عن موطئ لأقدامهم سوى الجحيم، قد لا تجد اللغة نفسها قادرة على التعبير، وقد يصل الألم البشري إلى ما هو دون اللغة وخارج مرمى قدرتها على الإفصاح. ومع ذلك فإن للصمت ضجيجه الخاص الذي يفوق في بلاغته ضجيج الخارج وسطوحه الظاهرة. وقد يكون الصمت المؤقت تمرينا على اللغة الأكثر بطئا والأكثر قابلية للبقاء في الوقت ذاته.
لا أدافع هنا عن المبدعين والشعراء بالمطلق، ولا أبرئ العديدين من شبهة الكسل أو التعالي أو إشاحة الوجه عن كل ما يتعلق بالهم الوطني والاجتماعي والقومي، ولكن ما أدافع عنه هو حرية الكاتب وحقه في الصمت أو الكلام، في الصراخ أو الإخلاد إلى السكينة. فقد يجد البعض ما يقوله أثناء الحدث وبعيد حصوله بقليل. وقد يجد البعض ضالتهم في النص السياسي التحريضي، كما في الأغنية والهتاف والنشيد.
وقد ينجح الألم والانفعال المباشر في إخراج الكلمات من ظلمتها ودفعها إلى الورقة البيضاء. لكن أحدا بالمقابل لا يملك إدانة الكتاب الذين يخلدون إلى الصمت في لحظات الحزن القصوى والتمزق الكابوسي. وسواء كان الأمر طوعيا كما هو حال الصمت الذي يرافق جلسات التعزية بالموتى، أو كان ناجما عن عجز المبدع عن الكتابة بفعل الهول الذي يصيب الألسنة بالتأتأة والأقلام بالخرس، فإن أحدا لا يملك الحق في إكراه الكاتب على الكتابة «غب الطلب»، على طريقة بعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية.
إن أحدا لا يجادل في كون المعاناة الإنسانية على أنواعها تقف وراء الكثير من الروائع الفنية والشعرية، لكن الفنانين وحدهم منوطون باختيار الوقت الملائم للتعبير عما يعتمل في دواخلهم من هواجس وإرهاصات. وفي اللحظات الأشد قتامة حيث تسقط المباني على رؤوس أهلها العزل وتكتظ الأرصفة بالجثث المكدسة بعضها فوق بعض ويبحث الأطفال عبثا عن موطئ لأقدامهم سوى الجحيم، قد لا تجد اللغة نفسها قادرة على التعبير، وقد يصل الألم البشري إلى ما هو دون اللغة وخارج مرمى قدرتها على الإفصاح. ومع ذلك فإن للصمت ضجيجه الخاص الذي يفوق في بلاغته ضجيج الخارج وسطوحه الظاهرة. وقد يكون الصمت المؤقت تمرينا على اللغة الأكثر بطئا والأكثر قابلية للبقاء في الوقت ذاته.