-A +A
محمد السديري
ثمة زوبعة ولغط كبير يرافقان الحياة السياسية لبعض القيادات الحزبية الخارجية حتى إنك تجد صورهم وأخبارهم تملأ الكثير من الحسابات الاجتماعية المحلية من قبل مؤيديهم أو المتعاطفين معهم، وصرنا لا نتخيل ذلك البلد بدون تلك الزعامات ووقع خطاباتهم المهيجة، وزخم قراراتهم العنترية، وصيحاتهم الميكرفونية!!، أقوالا لا أفعالا، ليلمسوا عواطف مؤيديهم ويثيرونها!!
ثم يقارنون تلك بالوطن ويتجاهلون إنجازاته ويجلدونه ويقزمون ما تحقق على أرض الواقع بل يحاولون أن يضعوا الضباب أمام أعين المواطنين.

إن ما تقوم به الآلة الإعلامية والصحف الرخيصة وحسابات التواصل الاجتماعي من تسليط الأضواء لبعض الشخصيات بطريقة ممجوجة سامجة والتعظيم من إنجازاتها بحجة نجاحها وتفوقها له دلالات انتمائية عميقة مردها إلى الجذور الحزبية والفكرية وبمسوغات أيدلوجية وبأطيافها ومصالحها وعصبياتها وجهوياتها حتى أصبحت وسائل الإعلام المشبوهة والمحسوبة مسارح لاستيعاب تلك الشخصيات والترويج لها وتصديرها للآخرين.
لننظر إلى بعض الأمثلة الحية في فضاء وطن تحاول القلة خطفه. فتجربة الرئيس أردوغان مهمة لتناول الوضع بموضوعية لا عاطفية وما يحاول البعض تسويقه عنه، لذلك سنقترب من هذه الظاهرة قليلا لنفك بعض طلاسمها وأدواتها ومن يقف خلفها وأسباب خطفها للعواطف والأنظار في ظاهرة جدلية تستحق الكثير من التأمل. ولست أتحدث هنا عن نجاحاته -وإن كنت سأشير لها إنصافا- بقدر ما هو قراءة لأسباب التقدير العربي «الحزبي» الذي يلقاه هذا الرجل، وهل هي أسباب حقيقية أم أنها مبنية على أساس وهمي هلامي صنعتها وسائل الأعلام الحزبية المحسوبة.
لقد حاز الرئيس رجب طيب أردوغان، رئيس تركيا، شهرة واسعة على حدود الجغرافيا العربية وأصبحت أخباره تملأ الصحافة والإعلام المحلي والعربي بطريقة مدروسة ومكثفة يتم تداولها بشكل دعائي حتى عده البعض كظاهرة تلامس حدود الأسطورة وجعلوا منه نجما من النجوم التي شغلت الورى وبطلا إسلاميا من الطراز القديم. فألصقوا فيه كل البطولات الوهمية الخارقة كنموذج للتنمية والإسلام المعاصر والدهاء السياسي والحريص والغيور والمنقذ والقديس والفاتح والمدافع الشرس عن حقوق المسلمين.
ليس انتقاصا من حق الرجل وجهوده في تحسين اقتصاد بلده، ولا يمكن تجاوز ما أحدثه الرجل في الداخل التركي، ولكن لماذا هذا التركيز عليه دون غيره من الزعامات الذين امتلأت محطات حياتهم برؤى متطورة وتركوا بصمات وآثار عميقة في بلدانهم وشعوبهم يصعب إنكارها أو تجاوزها بسهولة، ممن تم استبعادهم من مداولات بعض الجماعات التي تبالغ في رؤيتها وتطلعاتها وتضع أردوغان في مكان أرفع بكثير مما هو فيه. على سبيل المثال رائد المعجزة الماليزية مهاتير محمد السياسي الأسطوري الذي صنع معجزة صناعية اقتصادية اجتماعية بنظرته الثاقبة العميقة وما قدمه من إيثار ومصلحة عامة لوطنه على حساب جماعته وحزبه، حين تنازل عن السلطة مرتضيا لنفسه دور العمل الاجتماعي الذي تفوق فيه وعرف من خلاله، أين هم من تلك الظاهرة وأين هم عن إنجازاته وما حققه لبلاده من ريادة وموقع اقتصادي عالمي.
إن تغيب إنجازات مهاتير محمد عن المشهد هدفه حزبي بالدرجة الأولى.
أين معجزة الصحراء «عبدالعزيز بن عبدالرحمن» طيب الله ثراه وإنجازاته، أين «فيصل بن عبدالعزيز» رحمه الله ودوره في التضامن الإسلامي وغيرهم من حملوا الأمانة وقادوا الوطن وحققوا الريادة والتنمية له. لماذا تغيب أو تغيب إنجازاتهم من قبل «الأردوغانيين» لماذا لا يلقون استحسانهم ولماذا لا ترى مشاريعهم. فانظر للمشهد الحالي ولخطابهم بدون الأقنعة التي على وجوههم أليست الحزبية هي محركهم ودافعهم!!!
شخصيا أنظر لأردوغان وما فعله بكثير من الإعجاب ولكن في حدود لا يجعلني أضفي عليه هالة من القداسة، ولا أحد ينكر مدى اهتمامه بتحسين مستوى شعبه وما شهدته بلاده في السنوات الأخيرة من نهضة اقتصادية حقيقية صارت لها مكانتها في طريق التقدم والازدهار الاقتصادي لكنه لم يكن بمفرده فقد كانت النجاحات التي شهدتها تركيا ضمن وعي وطني «عام» أحدث ذلك التحول الذي جرى للاقتصاد والنظام والناس مكنته من القضاء والحد من أشكال الفساد والرشوة والبيروقراطية وغيرها من الآفات الإدارية، ناهيك عن ما اكتسبه من حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان وهو عمق تاريخي لا يتسع المجال لمناقشته هنا.
ما من أدنى شك اليوم بأن ظاهرة «الأردغانيين» لم يكن لها أن تتوغل أمامنا وتسلب عقولنا وأبصارنا لولا ممارسة الغواية والتزيين والتضليل كإغراءات سياسية لقيادة حزب نجح في أن يغيب عقول الملايين من الجماهير العربية ممن باتوا يهتفون بحياة الحزب لمجرد أنه لعب على عواطفهم وأحلامهم وآمالهم ظانين أن قادة تلك الأحزاب قطز أو صلاح الدين قد ظهر وسيعيد للأمة أمجادها وينقلها من حالها.
إلى متى سيظل العقل العربي مغيبا على قارعة الطريق نهلل لكلمات منمقة وخطابات حماسية ومواقف ظرفية عابرة على صهوة النشرات والتقارير والاخبار الصفراء بينما نكذب عيوننا عما تراه ونعطل عقولنا عن قراءة الواقع. فهناك تزوير كبير للحقائق عبر إعلامنا العربي بشكل انطلى وللأسف على الكثير من المتابعين حين تقوم بعض وسائل الإعلام والقنوات والصحف العربية الكاذبة بفجاجة وبدون خجل بهذا التسويق الرخيص حتى باتت البهرجة الزائدة سفسطة استهلاكية مملة خدمة منهم لأهداف دعائية حزبية مقيتة.. لم نر منها شيئا، وهو ما يجسده المثل الشائع: «اسمع جعجعة ولا أرى طحينا»!!
انظر معي إلى التناقض في المشهد وخذ مثالا من أرض الواقع عن علاقة تركيا السياسية والاقتصادية بإسرائيل وكذلك قارن بين ما يتم ترديده عن فلسطين المحتلة وعن غزة الجريحة تحديدا، ألا يوجد مصنع عسكري باسم (لوك هيد مارتن) يصنع الصواريخ التي تستخدم في قتل أهلنا في غزة، هل سمعت أحدا منهم بالداخل يتكلم عنه!! أما وطننا فيجلد ليلا ونهارا سرا وجهارا.
المستهجن في الأمر أيضا أننا لا نقدر إنجازات وجهود وطننا وسياساتها تجاه أمتها وشعبها وما سطرته من أعمال رائعة لخدمة أمتها بكل جدارة واستحقاق بعيدا عن النفاق والكذب والتدليس في حين نذهب بعيدا لاستجلاء إنجازات الآخرين وتضخيمها والتغني بها، فما حققته المملكة خلال السنوات الماضية من تطور وازدهار ومن دعم صادق لقضايا الأمة المصيرية بكل المقاييس حري أن نفاخر به ونسلط عليه عدساتنا وأقلامنا في تجربة قادت المملكة إلى مصاف العالمية في سياساتها وإنجازاتها ونهضتها المتميزة، إيها الأعزاء إن لابن الصحراء وجها صادقا لا يعرف الكذب ولا الخداع ولا يعرف لبس الأقنعة فظاهره كباطنه ودمتم سالمين.