قابلت صديقة أمريكية فرقنا الزمان منذ فترة. ومن ضمن الحديث ذكرت خيبة أملها الكبيرة في ابنها الذي كان من أشد المتفوقين في مجال الرياضيات لدرجة حصوله على منحة دراسية شاملة من عدة جامعات شهيرة في مجاله وهو مازال في السابعة عشرة من عمره ولكنه رفض ذلك كله ليسافر حول العالم ويصبح شخصا بوهيميا فيلسوفا يبحث عن «الحقيقة» كما يردد. كانت المسكينة حانقة وظلت تردد بأن «الحقيقة» التي يبحث عنها هي أمام عينيه فهو أحمق وستكون نهايته في قارعة الطريق وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي تراها.
أشفقت عليها كثيرا، فهي أم متفانية وكانت تعمل بجد في مجال الدعم الطبي كرئيسة للتمريض في قسم الحوادث في أحد أهم المستشفيات الجامعية في أمريكا. وزوجها طبيب ذو شهرة عالمية وفي حالة سفر دائم فكانت تجاهد بين عملها ومنزلها. ومنتهى خيبة أملها أن ترى أصدقاء ابنها يستميتون في البحث عن قبول في جامعات بينما كانت الجامعات تلاحق ابنها وهو لامبال، وبينما يبدأ رفاقه الدراسة في هارفارد وبراون وايموري، يسافر ابنها حاملا حقيبته على ظهـره من التيبت إلى كمبوديا إلى نيكاراجوا بحثا عن «الحقيقة».
تكلمنا عن جبران الذي قال بأن أبناءنا ليسوا لنا وكيف أنها فلسفة واقعية مؤلمة. فسواء أعطينا لأطفالنا جذورا أو أجنحة فسوف يطيرون إلى مايختارونه وهذه سنة الحياة ولا يمكن أن نغيرها.
قلت لها بأنني أتذكر قصة سيدة روسية رأيتها ذات مرة عند صديقة مشتركة. كانت السيدة الروسية تتحدث عن طفولتها التعيسة تحت ظلال الاتحاد السوفيتي وقتها قبل انحلاله. قالت بأن أمها كانت مهووسة بالجمناتستكس كرياضة وأدخلتها مجالها منذ أن كان عمرها اثني عشر شهرا. أي أنها كانت بالكاد تمشي. كانت ظروف التدريب قاسية ومؤلمة لتشكيل الأجساد الصغيرة وخلق مرونتها لدرجة أنها كانت تبكي كل يوم وهي في طريقها إلى الجيمنيزيزم وتبكي طوال فترة التدريب المؤلم لجميع مفاصلها. كانت أمها لا تأبه لبكائها ولا لمرضها فقد كان التمرين اليومي مقدسا ولو كانت الطفلة بالكاد تمشي من المرض في درجات حرارة سيبيرية منخفضة لدرجة أنها تقسم بأنها فقدت الوعي يوما ما وهي تمشي من شدة الحمى وحينما أفاقت حملتها أمها إلى التمرين، ورأت يومها في قارعة الطريق قطة مثلجة وكأنها في قالب ثلجي كبير فقد ماتت القطة من شدة البرد كما يبدو وتجمع عليها الثلج طوال الليل. استمرت المسكينة في تمرينها اليومي ورغم أنها لم تجد نفسها في مجال الجيمناستكس في أول الأمر إلا أنها أحبته مع الوقت وبرعت فيه لدرجة أنها اختيرت كإحدى المرشحات للأولمبياد. كان ذلك أكبر شرف يمكن أن تحصل عليه أي متدربة وأي عائلة ولكن المسكينة كانت قد تعبت من تكريس كل حياتها للرياضة، ولكن هيهات، فمن تختاره حكومة الاتحاد السوفيتي ليمثلها في المجال الرياضي لا يملك حق الاعتراض أو الاختيار. بدأت التمرينات الشاقة وبدأ الضغط النفسي الشديد يتزايد عليها لتحقيق الفوز ومن جميع النواحي: من مدربيها ومن أهلها ومن مدرستها ومن المجتمع وأصبحت تعاني من الأرق والتوتر والاكتئاب وبدأت تصيبها نوبات هلع متكررة «بانيك أتاكس» لخوفها من الفشل وكان يرافقها إزدياد في دقات القلب واضطراب وخوف لدرجة أثرت سلبا على تمريناتها ونتائجها فأصبحت غير مؤهلة واستبعدت من النهائيات.
حدثتنا ولا أنسى دموعها التي مازالت ساخنة رغم مرور الزمن، فقالت إن أمها عنفتها فهي حطمت حلم حياتها وتعب السنوات التي كرستها لها لتنجح وأخبرتها أن حزنها لن يكون أشد إذا ما ماتت أو ذهبت إلى غير عودة. أما مدربوها ومعلموها في المدرسة فقد لاموها لعدم تشريفها لوطنها بعدما جاءتها تلك الفرصة الذهبية وأصبحت تعامل كخائنة وفاشلة. لم تستطع الصمود فهربت إلى الغرب الأوروبي لتعمل نادلة وتبدأ حياتها كمجهولة في مكان جديد. تزوجت وأكملت تعليمها وأصبحت معلمة رياضة في إحدى المدارس. اعترفت بأن الاغتراب لم يكن حلمها ولكنها قالت بأنها أخيرا عرفت معنى السعادة لأنها تعيش بلا توتر أوخوف من الفشل والنقد. وأمنيتها الوحيدة أن تسامحها والدتها أخيرا فهي لم تقصد تخييب أملها ولكنها لم تستطع تحمل الضغط فطارت بأجنحتها ولكنها مازالت تحن لجذورها.
أشفقت عليها كثيرا، فهي أم متفانية وكانت تعمل بجد في مجال الدعم الطبي كرئيسة للتمريض في قسم الحوادث في أحد أهم المستشفيات الجامعية في أمريكا. وزوجها طبيب ذو شهرة عالمية وفي حالة سفر دائم فكانت تجاهد بين عملها ومنزلها. ومنتهى خيبة أملها أن ترى أصدقاء ابنها يستميتون في البحث عن قبول في جامعات بينما كانت الجامعات تلاحق ابنها وهو لامبال، وبينما يبدأ رفاقه الدراسة في هارفارد وبراون وايموري، يسافر ابنها حاملا حقيبته على ظهـره من التيبت إلى كمبوديا إلى نيكاراجوا بحثا عن «الحقيقة».
تكلمنا عن جبران الذي قال بأن أبناءنا ليسوا لنا وكيف أنها فلسفة واقعية مؤلمة. فسواء أعطينا لأطفالنا جذورا أو أجنحة فسوف يطيرون إلى مايختارونه وهذه سنة الحياة ولا يمكن أن نغيرها.
قلت لها بأنني أتذكر قصة سيدة روسية رأيتها ذات مرة عند صديقة مشتركة. كانت السيدة الروسية تتحدث عن طفولتها التعيسة تحت ظلال الاتحاد السوفيتي وقتها قبل انحلاله. قالت بأن أمها كانت مهووسة بالجمناتستكس كرياضة وأدخلتها مجالها منذ أن كان عمرها اثني عشر شهرا. أي أنها كانت بالكاد تمشي. كانت ظروف التدريب قاسية ومؤلمة لتشكيل الأجساد الصغيرة وخلق مرونتها لدرجة أنها كانت تبكي كل يوم وهي في طريقها إلى الجيمنيزيزم وتبكي طوال فترة التدريب المؤلم لجميع مفاصلها. كانت أمها لا تأبه لبكائها ولا لمرضها فقد كان التمرين اليومي مقدسا ولو كانت الطفلة بالكاد تمشي من المرض في درجات حرارة سيبيرية منخفضة لدرجة أنها تقسم بأنها فقدت الوعي يوما ما وهي تمشي من شدة الحمى وحينما أفاقت حملتها أمها إلى التمرين، ورأت يومها في قارعة الطريق قطة مثلجة وكأنها في قالب ثلجي كبير فقد ماتت القطة من شدة البرد كما يبدو وتجمع عليها الثلج طوال الليل. استمرت المسكينة في تمرينها اليومي ورغم أنها لم تجد نفسها في مجال الجيمناستكس في أول الأمر إلا أنها أحبته مع الوقت وبرعت فيه لدرجة أنها اختيرت كإحدى المرشحات للأولمبياد. كان ذلك أكبر شرف يمكن أن تحصل عليه أي متدربة وأي عائلة ولكن المسكينة كانت قد تعبت من تكريس كل حياتها للرياضة، ولكن هيهات، فمن تختاره حكومة الاتحاد السوفيتي ليمثلها في المجال الرياضي لا يملك حق الاعتراض أو الاختيار. بدأت التمرينات الشاقة وبدأ الضغط النفسي الشديد يتزايد عليها لتحقيق الفوز ومن جميع النواحي: من مدربيها ومن أهلها ومن مدرستها ومن المجتمع وأصبحت تعاني من الأرق والتوتر والاكتئاب وبدأت تصيبها نوبات هلع متكررة «بانيك أتاكس» لخوفها من الفشل وكان يرافقها إزدياد في دقات القلب واضطراب وخوف لدرجة أثرت سلبا على تمريناتها ونتائجها فأصبحت غير مؤهلة واستبعدت من النهائيات.
حدثتنا ولا أنسى دموعها التي مازالت ساخنة رغم مرور الزمن، فقالت إن أمها عنفتها فهي حطمت حلم حياتها وتعب السنوات التي كرستها لها لتنجح وأخبرتها أن حزنها لن يكون أشد إذا ما ماتت أو ذهبت إلى غير عودة. أما مدربوها ومعلموها في المدرسة فقد لاموها لعدم تشريفها لوطنها بعدما جاءتها تلك الفرصة الذهبية وأصبحت تعامل كخائنة وفاشلة. لم تستطع الصمود فهربت إلى الغرب الأوروبي لتعمل نادلة وتبدأ حياتها كمجهولة في مكان جديد. تزوجت وأكملت تعليمها وأصبحت معلمة رياضة في إحدى المدارس. اعترفت بأن الاغتراب لم يكن حلمها ولكنها قالت بأنها أخيرا عرفت معنى السعادة لأنها تعيش بلا توتر أوخوف من الفشل والنقد. وأمنيتها الوحيدة أن تسامحها والدتها أخيرا فهي لم تقصد تخييب أملها ولكنها لم تستطع تحمل الضغط فطارت بأجنحتها ولكنها مازالت تحن لجذورها.