تستطيع ويستطيع أي باحث أن يعرف خيري شلبي جيدا إذا بدأ دراسته بقراءة كتابه الفذ «موال البيات والنوم»، هذا الكتاب يختلف عن كل رواياته، ليس في أنه سيرة أو أشبه بالسيرة فقط، لكنه الكاتب وسط هذا العالم القاسي وكيف صار ملاذه أي مكان يقضي فيه ليله هو الذي ظل سنوات كثيرة في بداية حياته لا مكان مستقر له يبيت فيه ليله ويخرج منه مرتاحا إلى نهار من العمل والكفاح. الكتاب موال، والموال في اللغة العامية المصرية هو نشيد الحزن والأسى، لكنك لا تكف عن الضحك من المفارقات التي تقابله في كل مكان يسعى للنوم فيه، حتى لو كان شارعا يمشي فيه طول الليل، أو دورة مياه عمومية يتخيل أن حارسها سيغلقها ويمضي ويظل هو نائما جالسا على قاعدة الحمام الذي يقضي عليها الناس حاجتهم، لكن الحارس الذي يؤمن كل شيء يفتح الباب فيجده ويخرجه. في الكتاب تجد أسماء استعارية لكتاب تعرفهم بسهولة، شعراء وأدباء وفنانين ومغامرته معهم للنوم ومغامرتهم معه فلا ينام. ثم إن كلمة موال أيضا في اللهجة الشعبية تعني أمرا سيئا لا ينتهي. وكأن خيري شلبي يقول إنه حتى الآن وقد صار له بيت نظيف حسن الإضاءة لا ينتهي بحثه عن مرقد آمن. عن الوداعة والرضا. خيري شلبي الذي افتقدناه في التاسع من سبتمبر منذ ثلاث سنوات لم يكن كاتب رواية وقصة فقط، لكنه كان صحفيا وباحثا في التاريخ الثقافي، أعطى ذلك كل وقته وهو يعمل في مجلة الإذاعة والتلفزيون، فهو مكتشف مسرحية «فتح الأندلس» للزعيم مصطفى كامل بتحقيق الشيخ أمين الخولي الذي كان قاضيا لا يحب أن يكتب اسمه على المسرحيات في بداية القرن العشرين، واكتشف له هو نفسه ــ أمين الخولي ــ مسرحية «الراهب»، كما اكتشف خيري شلبي عشرات النصوص لمسرحيات قديمة مثلت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لكنها لم تنشر في كتب وقتها. وبالطبع لم يكن ممكنا أن ينشرها كلها، لكنه قدم عنها برنامجا في الإذاعة المصرية وعرف الناس بها. لكن من أهم اكتشافات خيري شلبي نص قرار النيابة في قضية كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين. نشر هو النص ودراسة عن القضية كلها في كتاب عام 1969، كان مفتتحا للعودة إلى هذا الموضوع الهام في ثقافتنا المصرية. كان عنوان الكتاب «محاكمة طه حسين» الذي نشر مرارا وصار حديث النائب الجليل محمد نور مفتاحا لكل المدافعين عن حرية التعبير في مصر وحتى اليوم. هذا الجانب في خيري غني جدا وأخذ كثيرا جدا من وقته رغم العدد الكبير من الروايات والقصص التي تفوق في عددها كل كتاب عصره تقريبا.
كانت الكتابة هي ملاذ خيري شلبي. ولقد كنت ــ طبعا ــ قريبا منه سنوات طويلة مثلما كنت قريبا من غيره من الكتاب. وكانت دهشتي كبيرة من عدم التفات النقاد لأعماله حتى سنوات الثمانينات تقريبا. وكنت أعرف أن جماعة جيل الستينات استطاعت أن تضرب كردونا حولها لا يدخله أحد، بل يخرج منه كتاب موهوبون كبار جدا مثل خيري ومجيد طوبيا. مجيد طوبيا الذي هو من أعظم الكتاب المصريين ويبدو منسيا دائما. كانت في خيري مرارة لا يعبر عنها إلا بابتسامة ثم يذهب إلى الكتابة. أعرف الكثير جدا عن دهاليز هذا الظلم الذي استمر سنوات طويلة جدا حتى نشر رواية الوتد وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني رائع، وبعدها صار خيري شلبي ملء السمع والدنيا. كان الكتاب يتحلقون يباهون بمواقف سياسية، وكان هو بعيدا عن السياسة انشغل بالكتابة والبحث. وكان هذا يجعلهم لا يذكرونه إلا كشيء عابر، بينما كانت حياته من الغني حتى أنها أثمرت عشرات الروايات الجميلة. كانوا يباهون بقدرتهم على التجديد في شكل ولغة الرواية، وكان هو يبتسم، فالرواية عنده ليست شكلا لكن بشر يتحركون وخبرة حياة لم تتوفر لأحد من جيله ولا قبل ولا بعد جيله. ربما فقط نجيب محفوظ. أستطيع أن أقول إن أول من كتب عن خيري شلبي كان العبد الفقير إلى الله أواخر السبعينات، ولم يكن مقالا نقديا، فلا أدعي ذلك، لكن كان عرضا لروايته «السنيورة» نشرته في صحيفة كويتية ثم مجلة مصرية، وكنت شابا جمعتني به جلسات جميلة. كتبت بعد سنوات عن كتابه الفذ «موال البيات والنوم»، وكتبت مقالا أطالب فيه بجائزة الدولة التقديرية له وحصل عليها وفازت الجائزة به بعد ذلك. لكن كل هذا ليس له أي معنى غير دهشتي من كاتب بهذه القامة يتأخر الاهتمام به، بينما يفوز غيره باهتمام نقدي وغير نقدي لانتمائه إلى جماعة أقامت حولها سورا لا يدخله إلا من تريد وأعني به جماعة جيل الستينات ــ كما قلت. كل ذلك لأن خيري شلبي لم يكن يجلس معهم جلسات يعبرون فيها عن رفضهم للأوضاع السياسية وتصل الجرأة إلى نفي من يعمل في صحف وأجهزة الحكومة من بينهم بينما من يفعلون ذلك، كلهم تقريبا، يعملون في صحف وأجهزة الحكومة. ولكنه لم يكن يعبر عن أي سخط إلا فيما ندر ويكتفي بالابتسام. للأسفن كان لخيري شلبي جلسة رائعة في مقهى عند مقابر قايد باي. ومكان للكتابة هناك ولا أستطيع التوغل في الحديث عنها؛ لأنه في بلادنا ليس كل ما يفعله الكتاب يقال. رغم أنه في المقهى لن تفعل أي شيء غير التدخين وشرب الشاي. لكن التدخين ــ طبعا ــ يمكن أن يكون للسجائر أو للمعسل أو لشيء آخر. في هذه الجلسة كان الضحك والرأي معا. كما سافرت معه إلى أكثر من بلد عربي وإلى فرنسا. فرنسا بالذات ضحكنا كثيرا جدا في ندوته وبعدها، وكانت بمناسبة صدور روايته صالح هيصة بالفرنسة وهي رواية عن عالم المخدرات السري. تحولت الندوة إلى ضحك لا نهاية له وهو يتحدث عن الرواية وشخصياتها. وعن هذا العالم. خرج الفرنسيون في غاية الدهشة من بساطة وصراحة الكاتب. وغير ذلك كثير كتبت منه يوما شيئا على الفيس بوك فألح علي الشباب أن أكتب ذكرياتي معه ومع غيره من الأدباء غير المتوافقين مع الحياة من حولهم مثل نجيب سرورن ولكن ــ للأسف ــ لا أستطيع. يبقى عطر هذه اللقاءات في روحي، ويبقى عطر ما تركه خيري شلبي للقارئ رغم ما مر به من حصار سخيف سنوات طويلة، ومن يريد أن يعرف خيري شلبي يقرأ أولا كتابه الفذ «موال البيات والنوم» ثم أتحداه أن يتوقف عن قراءة رواياته بعد ذلك.
ibrahimabdelmeguid2hotmail.com
كانت الكتابة هي ملاذ خيري شلبي. ولقد كنت ــ طبعا ــ قريبا منه سنوات طويلة مثلما كنت قريبا من غيره من الكتاب. وكانت دهشتي كبيرة من عدم التفات النقاد لأعماله حتى سنوات الثمانينات تقريبا. وكنت أعرف أن جماعة جيل الستينات استطاعت أن تضرب كردونا حولها لا يدخله أحد، بل يخرج منه كتاب موهوبون كبار جدا مثل خيري ومجيد طوبيا. مجيد طوبيا الذي هو من أعظم الكتاب المصريين ويبدو منسيا دائما. كانت في خيري مرارة لا يعبر عنها إلا بابتسامة ثم يذهب إلى الكتابة. أعرف الكثير جدا عن دهاليز هذا الظلم الذي استمر سنوات طويلة جدا حتى نشر رواية الوتد وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني رائع، وبعدها صار خيري شلبي ملء السمع والدنيا. كان الكتاب يتحلقون يباهون بمواقف سياسية، وكان هو بعيدا عن السياسة انشغل بالكتابة والبحث. وكان هذا يجعلهم لا يذكرونه إلا كشيء عابر، بينما كانت حياته من الغني حتى أنها أثمرت عشرات الروايات الجميلة. كانوا يباهون بقدرتهم على التجديد في شكل ولغة الرواية، وكان هو يبتسم، فالرواية عنده ليست شكلا لكن بشر يتحركون وخبرة حياة لم تتوفر لأحد من جيله ولا قبل ولا بعد جيله. ربما فقط نجيب محفوظ. أستطيع أن أقول إن أول من كتب عن خيري شلبي كان العبد الفقير إلى الله أواخر السبعينات، ولم يكن مقالا نقديا، فلا أدعي ذلك، لكن كان عرضا لروايته «السنيورة» نشرته في صحيفة كويتية ثم مجلة مصرية، وكنت شابا جمعتني به جلسات جميلة. كتبت بعد سنوات عن كتابه الفذ «موال البيات والنوم»، وكتبت مقالا أطالب فيه بجائزة الدولة التقديرية له وحصل عليها وفازت الجائزة به بعد ذلك. لكن كل هذا ليس له أي معنى غير دهشتي من كاتب بهذه القامة يتأخر الاهتمام به، بينما يفوز غيره باهتمام نقدي وغير نقدي لانتمائه إلى جماعة أقامت حولها سورا لا يدخله إلا من تريد وأعني به جماعة جيل الستينات ــ كما قلت. كل ذلك لأن خيري شلبي لم يكن يجلس معهم جلسات يعبرون فيها عن رفضهم للأوضاع السياسية وتصل الجرأة إلى نفي من يعمل في صحف وأجهزة الحكومة من بينهم بينما من يفعلون ذلك، كلهم تقريبا، يعملون في صحف وأجهزة الحكومة. ولكنه لم يكن يعبر عن أي سخط إلا فيما ندر ويكتفي بالابتسام. للأسفن كان لخيري شلبي جلسة رائعة في مقهى عند مقابر قايد باي. ومكان للكتابة هناك ولا أستطيع التوغل في الحديث عنها؛ لأنه في بلادنا ليس كل ما يفعله الكتاب يقال. رغم أنه في المقهى لن تفعل أي شيء غير التدخين وشرب الشاي. لكن التدخين ــ طبعا ــ يمكن أن يكون للسجائر أو للمعسل أو لشيء آخر. في هذه الجلسة كان الضحك والرأي معا. كما سافرت معه إلى أكثر من بلد عربي وإلى فرنسا. فرنسا بالذات ضحكنا كثيرا جدا في ندوته وبعدها، وكانت بمناسبة صدور روايته صالح هيصة بالفرنسة وهي رواية عن عالم المخدرات السري. تحولت الندوة إلى ضحك لا نهاية له وهو يتحدث عن الرواية وشخصياتها. وعن هذا العالم. خرج الفرنسيون في غاية الدهشة من بساطة وصراحة الكاتب. وغير ذلك كثير كتبت منه يوما شيئا على الفيس بوك فألح علي الشباب أن أكتب ذكرياتي معه ومع غيره من الأدباء غير المتوافقين مع الحياة من حولهم مثل نجيب سرورن ولكن ــ للأسف ــ لا أستطيع. يبقى عطر هذه اللقاءات في روحي، ويبقى عطر ما تركه خيري شلبي للقارئ رغم ما مر به من حصار سخيف سنوات طويلة، ومن يريد أن يعرف خيري شلبي يقرأ أولا كتابه الفذ «موال البيات والنوم» ثم أتحداه أن يتوقف عن قراءة رواياته بعد ذلك.
ibrahimabdelmeguid2hotmail.com