-A +A
نجيب عصام يماني
ذكر الدكتور عايض القرني «الشرق الأوسط»، (10341) عن ظاهرة العفواً عن القاتل مقابل الملايين من الريالات. متسائلاً كيف نُسمي هذه الطريقة عفو لوجه الله؟ وأهل القتيل يطلبون الملايين ثمناً لدم قتيلهم. ويستكثر د. القرني عليهم هذه الملايين وفي الحقيقة هي لا تساوي شيئاً أمام لوعة أم وحرقة أب ويتم أطفال وترمّل نساء قد يكون المقتول عائلهم الوحيد وملاذهم الآمن، فهم لهم حق في طلب ما يشاءون من أموال لقاء دم فقيدهم. والدية كما عرّفها الفقهاء بأنها اسم للمال الذي هو بدل النفس، فتح القدير (9/204)، كما ذُكر في كفاية الطالب (2/237) بأنها مال يجب بقتل آدمي حر عوضاً عن دمه، وهي تُؤدى إلى ولي الدم وقلما يجري فيها العفو لعظم حرمة الآدمي. والأصل في مشروعية الدية قوله تعالى: ( ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ). وقوله صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى أهل اليمن: «من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيّنة فإنه قود إلاّ أن يرضى أولياء المقتول»، وقد أوجب الله هذه الدية لصيانة دم الآدمي عن الهدر وهي ردع وزجر لكل من تسوّل له نفسه التعدّي على النفس البشرية التي حرّمها الله إلاّ بالحق، وفيها حكمة كما قال ابن الهمام إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده فهي ليست غاية بل وسيلة لكف المجرم والقاتل عن الجريمة وشرّها على الفرد والمجتمع واستقرار الأمن العام للدولة.
يقول عليه الصلاة والسلام: « قتل المؤمن أعظم من زوال الدنيا»، ويقول صلى الله عليه وسلم: « لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً»، وهذه الدية التي استكثرها الدكتور القرني وبالغ في نقدها وطالب بتحديدها إنما هي حق لأولياء الدم وهي عقوبة أصلية في القتل الخطأ وبدل يأتي في حالة الصلح عن القصاص أو سقوطه، وقد تدخل الحسين بن علي رضي الله عنهما في مجلس معاوية لدى أهل قتيل بدفع الدية حتى أوصلها إلى مائة دية طلباً لحقن دماء القاتل والتوسط في الصلح ولكن أهل القتيل رفضوا هذه الدية المضاعفة فأقام معاوية القصاص على القاتل. فالدية ليست بيع دم القتيل كما ذكر الدكتور القرني وإنما هي حق لأهل القتيل يفتدون به مقتولهم فلهم الحق في طلب ما يرضيهم مهما بالغوا فيه، وهذا حق شرعي لهم. ورأى أبو حنيفة ومالك أن الثابت هو القصاص ولكن له بدل وهو الدية إذا رضي ذلك ولي الدم فهي نوع من الصلح على واجب والصلح عقد لابد فيه من رضى الطرفين كما أن لأحمد والشافعي أن للولي الخيار في تعيين أحدهما فإن اختار القصاص وجب وأن اختار الدية وجبت ولزمت الجاني وليس له اختيار فيها فهي تجب من غير رضاه ولا يلزم بغير الدية ولا تصح الزيادة فيها إلا إذا تراضيا على الزيادة فهي عقد زائد على أصل الدية لقوله تعالى «فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان» كما أن الدية صيانة لنفس القاتل عن الهلاك والتخير للولي ثابت بحكم النص فالقصاص شرع لكي يشفي الولي غيظه وأخذ المال فيه تعويض أوضح من القتل الذي لا يشفي إلا ألم النفس أما المال ففيه تعويض وفائدة فمنه يسدد ديونه وتنفذ وصاياه وينتفع به ورثته. ما نسمعه اليوم من طلب أولياء الدم ملايين الريالات إنما يتم في المحاكم وأمام القضاة وقد تدخل ولي الأمر عِدّة مرّات ودفع الدية وأكمل الملايين المطلوبة ولو كان ذلك غير شرعي لما رضي القضاء ولما وافق ولي الأمر. إن تغليظ الدية إنما هو ردع وزجر لأولئك المستهترين الذين جعلوا من القتل وسيلة للتخاطب والتفاهم، وهي إعلان لكل مستهتر بأن أمامه جمع الملايين أو القتل بحد السيف وهذا يجعله يفكّر طويلاً قبل الإقدام على جريمته، ولا أعتقد أن من يأخذ دية على دم قتيله يدّعي أنه عفى لوجه الله، فطالما أن هناك دية فهي حلّت محل القصاص أما العفو لوجه الله تعالى فهو واضح ولا يزايد عليه أحد.

ورد في المغني لابن قدامة (9/508) أن عمر بن الخطاب قال: إن الإبل قد غلت، فقوّم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الحلل مائتي حلة، فالشاهد أن سيّدنا عمر قد زاد في مقدار الدية عن زمن رسول الله، فلولي الدم الحق في أخذ ما يرضيه من القاتل. ويبقى العفو هو الأفضل والأكمل في شرع الله.