-A +A
طلال صالح بنان
خلال شهر بدأت أسعار النفط بالانخفاض ليصل خام برنت 83 دولارا للبرميل ليفقد ما يقرب من 30 دولارا. إذا ما استمر هذا الانخفاض إلى ما دون ذلك، ليكسر حاجز السبعين دولارا، فإن هذا ينذر بتحولات جذرية في أسواق النفط، وربما بفترة ركود اقتصادي جديدة تذكر بالانهيار المالي الذي حدث قبل ست سنوات في 2008. حينها بلغ سعر برميل النفط 40 دولارا للبرميل في ديسمبر 2008 بعد صعود سريع لأسعار النفط وصل إلى أكثر من 140 دولارا للبرميل في منتصف نفس العام. أي أنه في عام 2008 تذبذب سعر النفط في حدود مائة دولار، خلال ستة أشهر فقط. في حين أنه في الأزمة الحالية لأسعار النفط فقد النفط أكثر من 30 دولارا في أقل من شهر واحد!
في 2008 العالم، من الناحية السياسية كان، نسبيا، أكثر استقرارا. عدا الوجود الأمريكي في العراق وأفغانستان وبعض الاضطرابات في البلقان، كان الشرق الأوسط حيث الاحتياطات الضخمة من النفط، نسبيا أكثر استقرارا. فلم تحدث حينها بعد ثورات ما سمي بالربيع العربي، وما تمخضت عنها من ثورات مضادة.. ولم تكن هناك حرب أهلية في سوريا، وهي بالمناسبة دولة نفطية، وإن كانت هامشية.. ولم يحدث انقطاع لتصدير النفط من السودان.. ولم يشتد بعد نظام المقاطعة الاقتصادية ضد إيران بسبب برنامجها النووي.. ولم يظهر بعد تنظيم داعش الذي بات يهدد وحدة ثاني أكبر دولة نفطية في منطقة الشرق الأوسط (العراق) ودولة نفطية أخرى، بالإضافة لسوريا. وفي منطقة البحر الأسود هناك أزمة أوكرانيا، التي خلقت أزمة سياسية واستراتيجية بين روسيا والغرب.

الأهم أن الأزمة الحالية في أسعار النفط لا تعكس بالضرورة بوادر لكساد اقتصادي وشيك، كما كان الأمر في 2008. الولايات المتحدة التي عصفت بها في 2008 أزمة مالية عاتية، وكان لها في حينها صدى على مستوى العالم. بينما في موجة انخفاض أسعار النفط الحالية يعد الاقتصاد الأمريكي في أفضل حالته، حيث تمت السيطرة على التضخم والحد من البطالة وانتعشت أسواق المال ويكاد سوق العقار يشرف على التعافي من كبوته عام 2008. الملفت أن انخفاض أسعار النفط الحالية يأتي والولايات تتصدر دول العالم المنتجة للنفط، بل وتصبح دولة مصدرة للنفط لأول مرة منذ كثر من نصف قرن!
صحيح قد تكون هناك مؤشرات لتباطؤ في النمو في الصين واليابان ودول الاتحاد الأوروبي، إلا أن ذلك لا يفسر هذا الهبوط السريع في أسعار النفط. كما أن نقص المعروض من النفط من مناطق منتجة للنفط تقليديا مثل نيجيريا وبعض دول غرب أفريقيا والعراق وسوريا وليبيا وتوقف إنتاجه في السودان، بالإضافة إلى الاضطرابات السياسية والحروب في منطقة الشرق الأوسط، يمكن أن تقود إلى دفع أسعار النفط للأعلى. بعض التقديرات كانت ترجح أن تلك العوامل السلبية في إنتاج النفط متوقع لها أن تدفع أسعار النفط بنهاية العام لتصل إلى 150 دولارا للبرميل، لا أن تهبط إلى نصف هذا المستوى من السعر، كما يحدث هذه الأيام.
من هنا تقتضي الحكمة النظر ليس في مستويات الأسعار، بقدر ما هي أوضاع أسواق النفط. المنتجون الكبار، مثل المملكة من مصلحتها ألا تدافع عن الأسعار، في مثل هذه الأوضاع، بقدر دفاعها عن حصتها في سوق النفط العالمية. انخفاض الأسعار قد يضر بمنافسينا في سوق النفط العالمية، الذين بعضهم قد يكونون ليسوا على وفاق سياسي معنا في التعامل مع بعض القضايا السياسية الإقليمية والدولية. فالمملكة، بما تمتلكه من احتياطات سيادية وقدرة تنافسية عالية في الإنتاج، تستطيع تحمل انخفاضات في الأسعار بمراحل، عن مقدرة تحمل منافسيها الإقليميين والدوليين في سوق النفط العالمية.
ثم إنه من مصلحة المملكة، التي تتمتع بقدرة تنافسية عالية في الصناعة النفطية، أن تحد من تدفق المزيد من الاستثمارات في صناعة النفط غير التقليدية. يرجع تحسن القدرة التنافسية للولايات المتحدة وكندا في الصناعة النفطية نتيجة للتطور التكنلوجي والتدفق الرأسمالي في صناعة النفط الصخري. إلى الآن ما زالت تكلفة إنتاج النفط من الترسبات النفطية الصخرية مرتفعة، تصل إلى 70 دولارا للبرميل. وإذا حدث ونزل سعر برميل النفط إلى ما دون هذا المستوى، فإنه لا من الناحية العملية ولا الاقتصادية يمكن الاستمرار في صناعة النفط الصخري، وكذا تحمل تكلفته البيئية.
من هنا فإنه لو كانت أزمة أسعار النفط الحالية صادف أن تخدم سياسياً مصالح الولايات المتحدة والمملكة، في مواجهة منافسين إقليمين ودوليين تجاه قضايا إقليمية معينة، فإن هذا لا ينسحب بالضرورة على وجود توافق متبادل في ما يخص السياسات النفطية، ولا التنافس في سوق النفط العالمية.
عندما ينقشع غبار معركة النفط الحالية، وهذا لن يطول بحال، تتجلى حكمة أولوية الحفاظ على «كعكة» السوق الاستراتيجية في مواجهة «إغراءات» الأسعار الوقتية في صناعة النفط العالمية. هذا يعكس استراتيجية المملكة النفطية، في الحفاظ على وضعنا التنافسي في صناعة النفط العالمية، بالحؤول لأطول فترة ممكنة، دون تطور بديل منافس للنفط في سوق الطاقة العالمية.