-A +A
شتيوي الغيثي
مرت السعودية بتحولات عديدة منذ بدايات توحيد هذه البلاد إلى ما بعد الثورات العربية، وأزمة الصراع العربي/ العربي الحالي، كما تكشفت كثير من الأمور عن كثير من الأسئلة على كل المستويات: الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والقيمية، في المجتمع السعودي، فعلى مستوى القيم مثلا فقد تشكلت على مفاهيم ما قبل قيم المجتمع المدني التي تتناسب مع مراحل نشوء مفهوم الدولة الحديثة ، لاسيما في الدول العربية منها ولم تتطور إلا قليلا فضلا عن تراجعها كما يتصور البعض والتي تتمثل في ضغط العامل الفكري أكثر من غيره بعد فترة انفتاح نسبي، فهو مجتمع ذو بنية فكرية تقليدية في غالب تصوراته.
وإذا ما اتفقنا مع الرؤية المادية لمسيرة التاريخ على أن الماديات هي المحرك التاريخي، فإنه كان من المفترض أن يتشكل المجتمع وفق معطيات التحولات الاقتصادية؛ خاصة بعد ظهور النفط كمحرك اقتصادي خطير، لكن ما الذي حصل هنا؟. الذي حصل أن تجارب الأجيال السابقة خاصة، جيل ما قبل الطفرة، الذي كان من المفترض أن يؤسس إلى رؤية ثقافية جديدة، لم تنتقل إلى الأجيال اللاحقة، فضلا عن عمليات الارتداد الثقافي، التي حصلت فيما بعد، طيلة ثلاثين سنة ماضية من جيلنا الحالي، وهنا نتفق مع المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في أنه «من الظاهرات الفاجعة في الحياة العربية الحديثة أن البناء الفكري والاجتماعي لا يتراكم طبقة فوق طبقة، ومرحلة بعد مرحلة، بل ترى كل جيل يصاب بالخيبة في قناعات الجيل السابق ويضطر إلى هدمها وإعادة التجربة حتى نقطة البدء. ثم ما يلبث أن يفجع في قناعاته ذاتها فلا يسلم شيئا ثابتا للجيل الذي يليه غير مرارة التجربة» (تحولات الفكر والسياسة : ص 91) ، وهذا ما يمكن ملاحظته في واقعنا السعودي من خلال تراجع حداثة الثمانينات والخيبات التي حصلت للكثير من رموزها، مما جعل التجربة تتأخر كثيرا لصالح قوى الفكر التقليدي. كما أن هذه الحداثة كانت شبه معزولة عن تجربة ما سبقها، أي فترة النهضة، إذا كانت هناك من نهضة حقيقية لدى الرواد، وكأن الثقافة السعودية، ومجتمعها، عبارة عن جزر متفرقة تأتي الواحدة بعد أن تستهلك الأولى ذاتها في عمليتي المد والجزر. وهذا ربما ما يحصل لنا نحن أبناء الجيل الجديد، وربما الجيل الحالي، إذ إن هناك شبه انقطاع عن سابقينا (حداثة الثمانينات) مما جعلنا نستوطن جزرا جديدة مع حملنا لكافة إشكالياتنا الثقافية والمجتمعية التي كانت دائرة في الأوساط الثقافية السابقة، من غير أن نجد تراكما معرفيا يمكن أن نضيف عليه شيئا، أو نبتني أساساتنا الثقافية فوقه.

لكن، وهنا مكمن الاختلاف، أن الأجيال الجديدة أكثر حظا من الأجيال السابقة لا على المستوى القيمي، ولا على المستوى المعرفي، فثورة الاتصالات والتحولات الإقليمية تفرض تحولات على المستوى الثقافي والقيمي، على الرغم من كل المشكلات والأزمات الساخنة التي ورثتها الأجيال الحالية من الأجيال السابقة. إن هناك ضروريات أساسية تفرض على الأجيال الجديدة التحولات الكبيرة في الرؤية للكثير من القيم تفترض التفكير جديا في القيم من نوع: التفكير في القيم الأخلاقية. التفكير في القيم الموروثة. التفكير في القيم العصرية الجديدة وتناسبها مع الذات. التفكير في قيمة التاريخ. التفكير في قيم التكوين. التفكير في قيمة المستقبل.. وغيرها؛ فضلا عن محاولة التخلص من إشكاليات العصور السابقة وايديولوجيات القرن العشرين ومرجعياته التقليدية والتعامل مع العصر بمنطق العصر بعيدا عن النظرة الاستهلاكية أو التخلص من الانكفاء على الذات ومعرفة الآخر معرفة إنسانية بعيدا عن تعقيدات المراحل السابقة..
الأجيال الحالية في مرحلة تاريخية مختلفة جدا عن كل المراحل الأخرى كونها استطاعت الانفلات نسبيا من قبضة الوصاية التقليدية التي ربما فرضت على المجتمع طيلة ثلاثين سنة ماضية أو أكثر، لذلك فالتحولات في القيم المجتمعية لدى الأجيال الجديدة تفترض رؤية مغايرة عن رؤية الآباء، وأسئلة أعمق، كون هذا العصر يعطي سعة أفق أمام الجيل الحالي؛ لكن عليه أن يعي أن هذه التحولات يمكن أن تعصف به إلى الوراء إذا لم يستطع التعامل معها بوعي تاريخي مختلف.