من أعجب الأشياء في المدينة الأمريكية الصغيرة و(الفقيرة نسبيا) التي أعيش فيها أني رأيت فيما رأيت بيوتا متهالكة ومحلات تجارية بالية وأسواقا فارغة وطرقا متشققة.. ولكن المدارس بكل أنواعها مشيدة على أرقى وأجود أنواع البناء ويتوفر فيها من كل ما يلزم الطفل من وسائل التعليم والترفيه والسلامة مما لا نجده في مدن غنية في بلادنا العربية. بل إن هناك أحياء فقيرة جدا تكتظ بالمشردين والعاطلين ولكن يفاجؤك أن المدرسة التي يتلقى فيها أطفالهم أساسيات التربية والتعليم أشبه بجوهرة لامعة في بيوت خربة. والمدرسة التي توجد في الحي الفقير لا تختلف عن المدرسة التي توجد في الحي الغني.
الطفل عند هؤلاء الناس شبه مقدس فهم يحرصون كل الحرص على تربيته وتعليمه وتهيئته للمسقبل، فإذا ما بلغ الفتى رشده وشب عن الطوق أصبح هو مسؤولا عن نفسه. لكنه كطفل يكون الجميع مسؤولين عنه: فعمدة المدينة والشرطة والمجتمع كله مسؤول عن حماية ورعاية الأطفال. على سبيل المثال، إذا ما توقف (الباص) الذي ينقل الأطفال من وإلى بيوتهم عند إحدى محطات النزول فإن كل السيارات تتوقف. وقد كنت أظن أنه لطف من سائقي السيارات أن يتوقفوا حرصا على سلامة الأطفال، لكن تبين لي لاحقا أنه أمر إلزامي ويعاقب من يخالف هذا الأمر. هذه بعض المشاهدات اليومية التي نعرفها كلنا.. بل إننا قادرون عليها. لكن هناك شيئا آخر مهما. ففي القانون الأمريكي، الطفل ليس ملكا لأبويه ولا ملكا لأحد، وهو حر ومستقل. إن ضرب الأب مثلا لطفله لا يختلف أبدا عن ضرب أحد الغرباء لهذا الطفل.. فالقانون يعاملهما بالمثل. لكن ما معنى أن يكون الطفل حرا ومستقلا؟ أليس تركه يفعل ما يشاء مضرا بسلامته وربما بحياته؟ هذا الكلام صحيح. لكن الحرية ليست إرخاء مجانيا للقيود والضوابط. فالحرية متى وجدت فإنها تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بمفهوم الضوابط والقيود. وأهم قيد فيما يتعلق بحرية المرء (الراشد) هو حرية الآخرين. فليس كونك حرا مبررا لنزع هذا الحق عن الآخرين. فالحرية ــ والتي يعبر عنها القانون في المجتمع المدني ــ تسعى لحماية المواطن؛ أي حماية حريته إجمالا: كحريته في السلوك والتعبير والتجارة والتنقل ونحوها. إذن، فالحرية تحمي المرء من اعتداء الغير عليه. لكن ماذا عن الطفل (غير الراشد)؟ لقد سبق أن أشرت في مقال قديم إلى المبدأ الأساسي. فإذا كان المرء حرا ما لم يلحق الضرر بالآخرين، فالطفل حر ما لم يلحق الضرر بنفسه (وبالآخرين طبعا). إن الطفل كالنبتة، يجب علينا فقط إزالة ما يعيق نموها السليم. ودور المربي سلبي: إنه يكمن فقط في إزالة ما يعيق نمو الطفل العقلي والجسدي والنفسي والمهاري. والمربي الذي يصوغ الطفل على نموذج معطى (ما نسميه قدوة) هو أمر خطير على حرية الطفل. التربية ليست مصنعا والطفل ليس منتجا. المدارس والأسر عليها واجب أن تتعرف جيدا على الطفل وعلى المهارات والمواهب التي يحوزها لكي تصقل. الكثير من الأسر والمدارس عندنا وبكل أسف لا تعرف شيئا عن أطفالها إذا تعلق الأمر بالمواهب. هناك أطفال كثيرون لديهم مواهب وقدرات لكنها لم تكتشف فضاعت هباء. إن حرية الطفل التي يجب صيانتها هي أن يتم التعرف على الطفل وعلى ممكناته وأن يفسح لها المجال لكي تنمو بحرية.
السؤال الذي أود أن أختم به المقال، وهو موجه لكل ولي أمر: هل تود أن يصبح طفلك نموذجا مثاليا يشار إليه بالبنان عند سواد الناس وأن يكون عالما أو مهندسا ناجحا لكنه في الوقت نفسه يعاني من عقد نفسية واهتزاز في شخصيته وعذاب أبدي.. أم تود أن يكون سليما نفسيا وعقليا أولا.. بصرف النظر عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي سيكون عليه في المستقبل: أفقيرا كان أم غنيا؟.
الطفل عند هؤلاء الناس شبه مقدس فهم يحرصون كل الحرص على تربيته وتعليمه وتهيئته للمسقبل، فإذا ما بلغ الفتى رشده وشب عن الطوق أصبح هو مسؤولا عن نفسه. لكنه كطفل يكون الجميع مسؤولين عنه: فعمدة المدينة والشرطة والمجتمع كله مسؤول عن حماية ورعاية الأطفال. على سبيل المثال، إذا ما توقف (الباص) الذي ينقل الأطفال من وإلى بيوتهم عند إحدى محطات النزول فإن كل السيارات تتوقف. وقد كنت أظن أنه لطف من سائقي السيارات أن يتوقفوا حرصا على سلامة الأطفال، لكن تبين لي لاحقا أنه أمر إلزامي ويعاقب من يخالف هذا الأمر. هذه بعض المشاهدات اليومية التي نعرفها كلنا.. بل إننا قادرون عليها. لكن هناك شيئا آخر مهما. ففي القانون الأمريكي، الطفل ليس ملكا لأبويه ولا ملكا لأحد، وهو حر ومستقل. إن ضرب الأب مثلا لطفله لا يختلف أبدا عن ضرب أحد الغرباء لهذا الطفل.. فالقانون يعاملهما بالمثل. لكن ما معنى أن يكون الطفل حرا ومستقلا؟ أليس تركه يفعل ما يشاء مضرا بسلامته وربما بحياته؟ هذا الكلام صحيح. لكن الحرية ليست إرخاء مجانيا للقيود والضوابط. فالحرية متى وجدت فإنها تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بمفهوم الضوابط والقيود. وأهم قيد فيما يتعلق بحرية المرء (الراشد) هو حرية الآخرين. فليس كونك حرا مبررا لنزع هذا الحق عن الآخرين. فالحرية ــ والتي يعبر عنها القانون في المجتمع المدني ــ تسعى لحماية المواطن؛ أي حماية حريته إجمالا: كحريته في السلوك والتعبير والتجارة والتنقل ونحوها. إذن، فالحرية تحمي المرء من اعتداء الغير عليه. لكن ماذا عن الطفل (غير الراشد)؟ لقد سبق أن أشرت في مقال قديم إلى المبدأ الأساسي. فإذا كان المرء حرا ما لم يلحق الضرر بالآخرين، فالطفل حر ما لم يلحق الضرر بنفسه (وبالآخرين طبعا). إن الطفل كالنبتة، يجب علينا فقط إزالة ما يعيق نموها السليم. ودور المربي سلبي: إنه يكمن فقط في إزالة ما يعيق نمو الطفل العقلي والجسدي والنفسي والمهاري. والمربي الذي يصوغ الطفل على نموذج معطى (ما نسميه قدوة) هو أمر خطير على حرية الطفل. التربية ليست مصنعا والطفل ليس منتجا. المدارس والأسر عليها واجب أن تتعرف جيدا على الطفل وعلى المهارات والمواهب التي يحوزها لكي تصقل. الكثير من الأسر والمدارس عندنا وبكل أسف لا تعرف شيئا عن أطفالها إذا تعلق الأمر بالمواهب. هناك أطفال كثيرون لديهم مواهب وقدرات لكنها لم تكتشف فضاعت هباء. إن حرية الطفل التي يجب صيانتها هي أن يتم التعرف على الطفل وعلى ممكناته وأن يفسح لها المجال لكي تنمو بحرية.
السؤال الذي أود أن أختم به المقال، وهو موجه لكل ولي أمر: هل تود أن يصبح طفلك نموذجا مثاليا يشار إليه بالبنان عند سواد الناس وأن يكون عالما أو مهندسا ناجحا لكنه في الوقت نفسه يعاني من عقد نفسية واهتزاز في شخصيته وعذاب أبدي.. أم تود أن يكون سليما نفسيا وعقليا أولا.. بصرف النظر عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي سيكون عليه في المستقبل: أفقيرا كان أم غنيا؟.