-A +A
محمد أحمد الحساني
مر علينا ونحن على مقاعد الدراسة درس نبوي في وجوب سعي الإنسان للحصول على رزقه وعدم كسبه عن طريق التسول والمسألة، حيث جاء في الحديث النبوي الشريف أن رجلا أخذ يسأل الناس في المدينة المنورة فأعطاه المصطفى صلى الله عليه وسلم درهمين وقال له: «اشتر بأحدهما طعاما وبالآخر فأسا فاحتطب وبع وذلك خير لك من المسألة»، وهو حديث تربوي عظيم يغرس في النفوس حب العمل والعطاء والمشاركة في البناء ويحط من قدر المسألة والاتكالية على الآخرين، وقد وضع ذلك الدرس في المناهج لتغذية عقول وقلوب الناشئة بتلك القيم التربوية العظيمة.
ولكن أهل البادية والأرياف لم يعد بإمكانهم الاحتطاب وبيع حطبهم في السوق أو تحويله إلى فحم وبيعه كذلك على الشارين لأن جهات الاختصاص

ــ وهي على حق ــ تجرم الاحتطاب وتعاقب من يقوم به وتصادر ما معه من حطب وتغرمه مبلغا يتراوح ما بين ألف إلى خمسة آلاف ريال حسب كمية الحطب وتكرار المخالفة.
وأذكر أن جماعتنا من البدو كان الواحد منهم يأتي من أطراف أم القرى فجرا وقد حمل حِماره كومة من الحطب أو عدة أكياس من الفحم فإذا وصل الأسواق أو الحارات أخذ ينادي بأعلى صوته: يا مسهِـل .. يا مسهـل فيهـرع إليه من يريد شراء حطب أو فحم، أو يذهب إلى دكاكين الحطابين والفحامين فيبيع عليهم بضاعته المزجاة ويستلم منهم عدة ريالات كانت في حينه كافية لتحميـل الحمار بالأرز والتمر والبهارات والقهوة والدقيق وبعض الأرزاق الأخرى، ليعود بها إلى أسرته في البادية وقد حمل إليها ما يكفيها لأسبوع أو أكثر وهكذا دواليك!.
ولعل هؤلاء البدو قد وجدوا مصدر رزق آخر يغنيهـم عن الاحتطاب وبيع الحطب والفحم أو أنهم لم يجدوا ذلك المصدر فاضطروا لمخالفة التعليمات فكان المراقبون لهم بالمرصاد!.
ولعل من أكثر الأخبار طرافة حول موضوع الاحتطاب ما قرأته في إحدى الصحف أخيرا عن قيام المراقبين بمصادرة حمولة عدة سيارات من نوع «الوانيت» ، من الحطب وأن الكمية المصادرة جرى بيعها بالمزاد فاشتراها الحطابون أنفسهم ودفعوا قيمة حمولة الوانيت نحو ثلاثمائة ريال إضافة إلى غرامة قدرها ألف ريال، ثم ذهبوا ببضاعتهم لبيعوها في الأسواق بسعر أعلى لأنهم سوف يضيفون لثمن البيع ما دفعوه قيمة للحطب وما «طرقوه» مقابل الغرامة مع هامش ربح مناسب لصالحهم فإذا جاء مشترٍ من صاحب دكان لبيع الحطب فإن البائع سوف يضيف إلى تلك المبالغ المتقدم ذكرها حصته من الربح فيدفع جميع ما ذكر المواطن أو المقيم فهو الغارم الوحيد في هذه المسألة فلا تطيح الحطبة إلا على رأس صاحب الكنبة، وكل ما ذكر لم يمنع وجود احتطاب ولم يعالج المسألة من جذورها ولم يدرس الدافع الذي جعل فئة من البدو يعتاشون على الاحتطاب ويعرضون أنفسهم للإصابة بالأمراض الصدرية ومنها «الدرن» وهم يحولون الحطب إلى فحم ولم يتم التفكير في إمكانية جدولة الاحتطاب فيكون مسموحا به في موقع وغير مسموح به في مناطق أخرى وذلك للسماح بنمو المناطق الأخرى قبل اختيار بعضها للاحتطاب فتمنو الأشجار في المنطقة السابقة بعد عدة سنوات عبر عملية مدروسة تسمح بالاحتطاب المقنن مع استيراد ما يسد الحاجة قدر الإمكان والاستفادة من تجارب الدول التي تسمح بالاحتطاب المقنن الذي يطبق نظرية: لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم!.