-A +A
محمد العصيمي
لا يشترط طبعا أن تكون بقرة لتصاب بالجنون، فالبشر طوال تاريخهم، فرادى وجماعات، أصيبوا بأنواع من الجنون الذي حفظته المتاحف والمكتبات. الفرق أن البقرة حين تصاب في جهازها العصبي يظهـر عليها تغير في السلوك لا يتجاوز حالة ارتجافات متواصلة ثم تموت من فورها. أما الإنسان فإصابة جهازه العصبي والذهني يحوله إلى قاتل لكل ما يتحرك أمامه: الناس والشجر والحيوان والأمل. بل إنه، كما حدث في باكستان واليمن في اليومين الأخيرين، يزهق، بدم بارد وأعذار قبيحة، يفجر أجساد الأطفال الأبرياء ويفطر قلوب آبائهم وأمهاتهم عليهم، ويروع مجتمعاتهم.
هذا الجنون غير المسبوق، الذي يمتد الآن على طول البلدان الإسلامية والعربية، ينسب إلى الإسلام، الدين الذي جاء بالعدل والرحمة والسلام. ومداره، أي هذا الجنون الصلف، أن تقتفي أثرهم وأدلتهم ورؤيتهم أو ستكون ضحية الغد إن لم تكن ضحية اليوم. مجانين بعضهم خلف بعض يعجنون أدلة جنونهم الدينية ويخبزونها على هواهم ليزهقوا الأرواح ويسفكوا الدماء ويروعوا الآمنين.

وإذا سألت عن السبب في نشوء هذا الجنون الجديد فلا بد أن تلتفت إلى الوراء: إلى زوايا صناعة الكره وغرسه في نفوس النشء حبة حبة إلى أن استوى وتحول إلى طبع مقيت، لا يمكن لصاحبه أن يعرف غير النفي والسحل والقتل، بل والتنافس على مواطن الكراهية والمزايدة فيها باعتبارها أصبحت البضاعة الرائجة والمربحة.
وحين يقفز الآن كثيرون من مركب هذه الصناعة الخطرة فإن هذا لا يعفيهم من المسؤولية، فالمجتمعات التي تدفع ثمن هذا الجنون من أرواح ودماء شبابها وأطفالها سوف تحاسبهم، طال الزمن أو قصر، على ما زرعوه من أشواك في النفوس وما روجوا له من (حق) الاعتداء على الآخر المختلف. وما قد يشفع لهم، في مواجهة هذه المحاسبة المجتمعية المنتظرة، أن يعترفوا بآثامهم ويعتذروا عنها ويعملوا على فتح حقول جديدة لإشاعة المحبة والإخاء والسلام.
وإن كنت، فيما أرى وأراقب من ردود الأفعال على صور الجنون الأخيرة، لا آمل بأن يعود قادة مواطن وزوايا الكراهية عن غيهم، فمن تطول به الآثام تصعب عودته عنها إلا بمعجزة. وبالتالي فإن الخروج من هذا النفق المعتم لن يحدث بدون التمكين لتيارات الوسطية والتنوير والبناء، التي تتشارك الموقف ذاته من جنون جماعات العنف وتتحد ضدها لتقضي على هذا الجنون بالوسائل والفعل الفكري الحقيقي، وتنقذ الرمق الأخير لحياتنا وأمننا ومستقبل أطفالنا.