-A +A
هاشم عبده هاشـم
•• جسدت ميزانية العام المالي الجديد 1436/1437هـ مجموعة من الحقائق الهامة.. ووجهت ــ في نفس الوقت ــ عدة رسائل أكثر أهمية إلى كل الدنيا.
•• تلك الحقائق هي:
• أولا: أن المملكة العربية السعودية.. بلد مستقر وآمن.. وراسخ القواعد والأركان سواء من الناحية الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية.. حتى في أكثر الظروف صعوبة وأشدها تعقيدا..
• ثانيا: أنها تعمل من أجل المستقبل دون شعور بالقلق.. لأنها تعمل في ظل حسابات دقيقة لا تتجاهل كافة الاحتمالات.. بما في ذلك تزايد حدة المخاطر المحدقة بالمنطقة والعالم.. وهبوط أسعار النفط.. لإيمانها بالله أولا.. ثم بإرادة التحدي المرتكزة إلى مضاعفة الطاقة وبذل المزيد من الجهد والعمل بإتقان على رفع مستويات الحياة في البلاد.. والسعي إلى تأمين الإقليم وتقوية أركانه من الخارج..
• ثالثا: أن التنمية الشاملة في الداخل والتوسع في الإنفاق عليها واستثمار الموارد بكفاءة عالية هي صمام الأمان لأي وطن وسلامة كل دولة تريد الخير لنفسها والرخاء لشعبها بدرجة أساسية ثم لأمتها ومحيطها القريب منها ومن ثم للمجتمع الدولي بعد ذلك.
• رابعا: أن المبالغة في المخاوف وفي القلق أشد خطورة على الدول والأوطان.. لما تتركه من آثار سلبية عليها في الداخل وهز حقيقي لصورتها في الخارج.. وتعريض مصالحها للخطر والتمكين للأعداء منها بسهولة..

مفهوم المسؤولية عند الملك
•• هذه الرسائل الهامة أرسلها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز منذ اليوم الأول الذي استلم فيه الحكم في هذه البلاد وباشر المسؤولية عن قرب وقال فيها «إنني أشعر بأن الحمل ثقيل وأن الأمانة عظيمة وأعاهد الله ثم أعاهدكم أن يكون شغلي الشاغل إحقاق الحق وإرساء العدل وخدمة المواطنين كافة بلا تفرقة وأطالبكم بأن تشدوا أزري وأن تعينوني على حمل الأمانة وأن لا تبخلوا بالنصح والدعاء» وسأل الله «أن يحفظ لهذه البلاد أمنها وأمانها ويحمي أهلها من كل مكروه».
ثم جاء تأكيده الجديد في خطابه المقترن بصدور هذه الميزانية هذا العام بـ«أن بلادنا ولله الحمد تنعم بالاستقرار والأمن» وأن «مسؤوليتنا جميعا صيانته والمحافظة عليه لمواصلة مسيرة النمو والتنمية» لكنه طالبنا في نفس الوقت ــ حفظه الله ــ جميعا ببذل أقصى الجهود لتنفيذ برامج الميزانية ومشاريعها بالكفاءة والجودة لتحقق أهدافها وينعم بها الجميع.
أخطار حقيقية.. كيف نتغلب عليها؟
•• لكن الملك وهو يبث هذه الروح المتفائلة بيننا وضعنا في الصورة من حقيقة ما يجري في المنطقة والعالم بقوله «لا يخفى عليكم ما يمر به الاقتصاد العالمي من ضعف في النمو أسهم إضافة إلى ما تمر به السوق البترولية العالمية من تطورات في انخفاض كبير في أسعار البترول..
وقد جاءت توجيهاتنا للمسؤولين بأن تأخذ ميزانية العام القادم بعين الاعتبار هذه التطورات وترشيد الإنفاق مع الحرص على كل ما من شأنه خدمة المواطنين وتحسين الخدمات المقدمة لهم والتنفيذ الدقيق والكفء لبرامج ومشاريع الميزانية».
•• وبكل تأكيد..
فإن هذا هو التحدي الحقيقي الذي نواجهه الآن دولة ومجتمعا وقطاع أعمال..
وبصورة أكثر تحديدا.. فإن المضي في سياسات الإنفاق.. وفي ترشيد المصروفات في آن معا يمثل تحديا كبيرا.. ويجسد إرادة واعية للموازنة بين الاستثمار الأمثل للموارد وبين الحرص الشديد على عدم إهدارها في آن واحد.
•• هذا التحدي الضخم يعتبر بمثابة اختبار حقيقي لنا في هذه البلاد دولة.. وقطاعا خاصا.. ومواطنين وعلينا أن نكون جميعا في مستوى هذا التحدي الصعب.


الإنفاق.. أو الانكماش.. خيار صعب
•• فلقد كان بإمكان الدولة أن توقف هذه السياسة.. وتتوقف عن السياسات التوسعية في الإنفاق على المشاريع والخطط والبرامج.. سواء المتصل منها بإصلاح نظام التعليم والتوسع في الابتعاث الخارجي.. أو في إعادة تنظيم القضاء.. أو في تحقيق التنمية الشاملة والمتوازنة في إقامة (24) جامعة جديدة ارتفعت مع صدور هذه الميزانية إلى (27) جامعة بإضافة جامعة جدة وجامعة حفر الباطن وجامعة بيشة وكذلك إيقاف مشاريع الربط بين شمال المملكة وجنوبها وشرقها وغربها بمشروع السكك الحديدية ومشاريع النقل الطائلة.. والحد من الإنفاق على مشاريع الإسكان والتوسع في المدن والمستشفيات والمراكز الطبية وزيادة عدد الأسرة المستوعبة للمرضى.. وتجميد مشاريع الملاعب الرياضية الـ (11) ومقرات الأندية الـ (16) والمدن الترفيهية الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها وغيرها من المشاريع الحيوية الهامة التي اعتمدت لها الدولة هذا العام (860) مليارا.
•• لقد كان هذا الخيار أمام الدولة خيارا سهلا.. ومبررا.. في ظل الأوضاع الاقتصادية العالمية بشكل عام.. والبترولية بشكل خاص.. لكنها وبتصميم من الملك.. اختارت الإبقاء على حركة التنمية المتسارعة بمعدلات عالية إنجازا لما وعد به الوطن.. ثقة في الله (أولا) ثم في قدرة الدولة على الوفاء به (ثانيا) وكذلك في القطاع الخاص المناطة به مهمة التكامل مع الدولة رفعا لمعدلات الإنتاج وتحقيق موارد إضافية كافية من غير عوائد النفط.

عوامل نجاح سياسة الإنفاق
•• لكن المضي في هذه السياسة ونجاحها مرهون بمدى توفر العوامل التالية كما ورد في خطاب الملك الموجه إلينا:
(1) ترشيد الإنفاق.
(2) تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين.
(3) التنفيذ الدقيق والكفء لبرامج ومشاريع الميزانية.
(4) تعزيز التكامل بين القطاعين العام والخاص.
(5) تحسين أداء القطاع الحكومي.
(6) معالجة اختلالات سوق العمل لإيجاد مزيد من فرص العمل للمواطنين تحقيقا للتنمية المتوازنة بين المناطق.
(7) الاستخدام الأمثل للموارد.
•• ولا أظن أن هناك خبيرا في هذا العالم يختلف مع هذه المعايير لإنجاح سياسة طموحة كالتي تتبعها المملكة الآن.. ولا تتعرض بسببها لا سمح لأي هزة في المستقبل...
•• ولذلك فإن الأمل يظل معقودا بدرجة أساسية لتنفيذ هذه الرؤية المسؤولة التي وضعها خادم الحرمين الشريفين على أجهزة الدولة وقدرة القطاع الخاص على مجاراة هذه الطموحات والارتفاع إلى مستوى المشاركة في تحقيقها وتجنب التراجع عنها..
•• وليس هناك تعارض بين التوسع في الإنفاق الاستثماري سواء في البشر أو على إنجاز المشروعات الحيوية الهامة التي تحتاجها التنمية وبين «ترشيد الإنفاق فيما لا ضرورة له ولا طائل من ورائه.. كالحد من النفقات الجارية خاصة نفقات الرواتب والأجور والبدلات وما في حكمها والتي تمثل قرابة (50%) من النفقات المعتمدة بالميزانية» كما ورد في بيان وزارة المالية المقترن بصدور الميزانية..
•• صحيح أن هناك تضخما في الكادر الوظيفي الحكومي..
•• لكن الأكثر صحة هو أن البلد مقبل على تنمية شاملة تخلق ملايين الفرص الجديدة في القطاعين الخاص والعام.. وإن كان الهدف ليس هو زيادة عدد الفرص الوظيفية فقط.. وإنما الأهم هو تلبية احتياجات خطط التنمية بكفاءات وطنية عالية.. ومدربة ومؤهلة وقادرة على النهوض بأعباء صناعة المستقبل.. للانتقال إلى مجتمع المعرفة وهو ما يهدف إليه برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث وهذا ما يجب أن يشارك فيه القطاع الخاص برفع مستوى تأهيل المواطن وإكسابه المزيد من الخبرات بالتوسع في التدريب وبالاستيعاب لأبناء الوطن في كافة منشآته وقطاعاته.. بمزيد من التعاون بينه وبين وزارة العمل ومؤسسة التأمينات الاجتماعية.. وكذلك بتوفير البيئة الجاذبة للقطاع الخاص للعمل والتوسع في الاستثمار الداخلي وفي الاستغناء التدريجي عن العمالة الوافدة.. وذلك كله ممكن بل ومطلوب بمزيد من التعاون والعمل المشترك بين الدولة وهذا القطاع في ظل مصلحة وطنية مشتركة تحتمها ضرورات المرحلة وطبيعة النمو المنشودة وتكامل الأدوار.

تطوير التعاون بين القطاعين العام والخاص
•• وأنا متأكد بأن ذلك سوف يتحقق بالعمل معا.. وبالتكامل بين الطرفين.. وربما بتأسيس منظومة جديدة تجمع بين الوزراء والمسؤولين بالهم الاقتصادي في الدولة (وزارة المالية/ وزارة العمل/ وزارة التجارة والصناعة/ وزارة التخطيط والاقتصاد/ وزارة الخدمة المدنية/ وزارة البترول والثروة المعدنية).. وبين رجال وسيدات الأعمال البارزين تحت مظلة المجلس الاقتصادي الأعلى.. أو أي مظلة أخرى لبلورة سياسات موحدة ومشتركة.. والعمل على تنفيذها بكل دقة واهتمام ومتابعة كل صغيرة وكبيرة يمكن أن تعترض تحقيق برامج التنمية المستدامة وانصهار جميع الطاقات في خدمة الأهداف المحققة لها.

التكامل بين الاقتصادي.. والأمني والسياسي
•• ولا شك أن تحقق هذا المستوى الخلاق من التعاون بين القطاعين كفيل بتحقيق المعادلة الصعبة بين الإنفاق المفتوح وبين المصاعب والاختناقات التي يواجهها الاقتصاد العالمي.. وظروف المنطقة الأمنية والسياسية غير المستقرة.. وتزايد الحاجة إلى الترشيد وضبط المصاريف.
•• ونحن جميعا ندرك أن ظروف المنطقة هذه من التعقيد والتشابك بحيث لا يمكن تجنب تأثيرها على بلادنا إلا بالمزيد من التلاحم.. والتعاون.. وبالعمل الجاد والمسؤول وبالتوجه نحو الإنتاج والمحافظة على الاقتصاد قويا.. وعلى الأمن مستتبا..

التحرك على (3) مسارات
•• ومن أجل ذلك فإن المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله.. وبسياساته الحكيمة.. حرصت باستمرار على العمل على (3) مسارات في آن واحد..
•• هذه المسارات هي: المسار الاقتصادي القائم على تنمية الموارد وتوظيفها التوظيف الأمثل في المشاريع الكبرى.. أو في توفير الدعم لدول المنطقة لتمكينها من مواجهة المصاعب الاقتصادية التي تواجهها.. وكذلك المسار الأمني.. الذي يتعزز بتعزيز الكفاءة الاقتصادية وتلبية احتياجات الوطن والمواطنين وتأمين الاستقرار والطمأنينة والرفاهية لهم..
أما المسار السياسي.. فإن المنطقة تشهد لخادم الحرمين الشريفين على ما قام ويقوم به في هذا الصدد من جهود مضنية لتهدئة الأوضاع الأمنية المتردية في المنطقة.. وإيقاف الفوضى العارمة التي انتشرت في أرجائها.. وذلك بالعمل بقوة في أكثر من اتجاه:
• أولا: دعم القوى الوطنية المعتدلة لمواجهة الأخطار المحدقة بأمتنا.. كما فعلت بالوقوف إلى جانب الشقيقة مصر العربية.. ودعم قيادتها الجديدة بنهجها الواضح نحو بناء دولة قوية وقادرة على منع الانهيار الذي كان يلوح في أفق المنطقة بكاملها..
• ثانيا: تصفية الخلافات بين الفرقاء والتغلب عليها بالمزيد من الحكمة.. والالتفاف حول بعضنا البعض.. وتمثل ذلك ــ حتى الآن ــ في مظهرين.. أحدهما: بالتغلب على الخلاف الناشئ بين الدوحة والرياض وأبو ظبي والمنامة وعودة المياه إلى مجاريها الطبيعية.. ثم بالمساعي الحثيثة والقوية التي تتواصل الآن بمتابعة من رئيس الديوان الملكي السكرتير الخاص والمبعوث الشخصي لخادم الحرمين الشريفين الأستاذ خالد بن عبدالعزيز التويجري.. لإعادة بناء الثقة بين القاهرة والدوحة.. وهي الجهود المتوقع أن تترسخ أكثر باللقاء المرتقب في روضة خريم بين أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وبين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.. في حضرة الملك الأب والإنسان لتحقيق إنجاز عربي وقومي كبير ستكون له نتائجه الإيجابية العظيمة في المنطقة.

مصالحات إقليمية قادمة
•• ولا أستبعد أن تتواصل جهود خادم الحرمين الشريفين لردم كل الفجوات المفتوحة بين العرب (أولا) ثم بين العرب وجيرانهم في الإقليم.. لأن الملك يؤمن بأنه لا مصلحة لنا جميعا في استمرار الفرقة لما لها من انعكاسات سلبية شديدة على أمن دولنا واستقرارها وعلى اقتصاداتنا.. وخططنا وبرامجنا التنموية لمواجهة تحديات المستقبل وتلبية استحقاقات الأجيال القادمة.
•• وعندما يقترن الاقتصاد بالسياسة والأمن.. فإن مفهوم الأمن والاستقرار ــ من منظور خادم الحرمين الشريفين ــ الشامل يصبح قابلا للتحقيق.. وهو ما سعى ويسعى ــ حفظه الله ــ إلى إحرازه بجهود مضنية يتواصل فيها العمل ليلا ونهارا.. وتستمر فيها الاتصالات بينه وبين القادة والزعماء وأصحاب القرار على مدى الساعة..
•• وهذا يعني أن الحديث عن الميزانية الجديدة للمملكة العربية السعودية.. قد أخذ كل هذه الظروف بالاعتبار وأنها صممت على أساس ما تجمع لدى ولي الأمر من معطيات أوجدتها تحركاته على كل المستويات.. وأوجبها شعوره بالمسؤولية الوطنية والقومية لأنه يؤمن بأن المصير واحد.. والتفكير في الجميع ضرورة.. والعمل بتعاون الكل احتياج لا فكاك منه..

السياسة في خدمة الأمن والاقتصاد
•• وباختصار شديد
•• فإن المملكة العربية السعودية التي تتحرك الآن بقوة وعلى جميع الأصعدة.. تدرك مدى حجم الأخطار والتحديات.. لكنها تدرك أيضا أن لدى الشعب السعودي الإرادة والتصميم اللذين يجعلانه يصون مكتسباته ويحافظ على وطنه.. وإلا فما كان بالإمكان إصدار ميزانية طموحة بهذا الحجم.. رغم بروز الكثير من المؤشرات السالبة على احتمالات تدهور أكبر للأوضاع الاقتصادية في العالم..
•• لكن ورغم هذا الوضع.. إلا أن الملك مصمم على أن يمضي بهذه البلاد.. بل وبالمنطقة العربية.. والشرق الأوسط إلى بر الأمان بإذنه تعالى..
•• ولذلك قال لنا في خطاب الميزانية:
«نحن متفائلون من أن النمو الاقتصادي سيستمر بإذن الله مدفوعا بنشاط القطاع الخاص واستمرار تعزيز التكامل بين القطاعين العام والخاص ومواصلة تحسين أداء القطاع الحكومي وتطوير التعليم باعتباره أساس التنمية ومعالجة اختلالات سوق العمل لإيجاد مزيد من فرص العمل للمواطنين والتنمية المتوازنة بين المناطق والاستخدام الأمثل للموارد» كما سبق أن أشرنا..
•• وهذا يعني أن الكرة أصبحت في مرمانا.. مواطنين ومسؤولين بداخل المملكة العربية السعودية.. وقادة وشعوبا في الدول العربية وفي الإقليم.. وأن علينا أن نتجاوب مع سياسات وتوجهات كهذه تريد لنا الخير جميعا.. وأن نعمل بكل طاقة لكي نصل بأوطاننا إلى بر الأمان.. بعيدا عن الأخطار والمهالك.