-A +A
محمد عبدالرزاق القشعمي
أكرمني الدكتور عبدالله مناع وأهداني سيرة ومسيرة الدكتور عبدالله صادق دحلان، وبقراءة سريعة عرفت مدى حرص أبي عَمرو واستنجاده بمن يعرفني قبل أشهر للبحث عني – بدعوى أني لا أحمل هاتفاً كغيري – وبحكم مسؤوليته لدار المرسى للنشر والتوزيع بجدة فقد حرص على سرعة إخراج هذا العمل الرائع (أيام.. لا ككل الأيام) إذ لابد من ترقيمه بمكتبة الملك فهد الوطنية (ردمك).
عند لقائي بالمناع بجدة قبل شهر سألته عن الكتاب؟ فقال إنه طبع وسيبعث للمكتبة بنسختي الايداع ومعها نسخة ثالثة خصني بها.. وفعلاً بعد أيام وصلت الهدية، وكان إعجابي بكتاب المناع السابق (بعض الأيام.. وبعض الليالي) لا زال في الذكرة، تصفحت الهدية سريعاً ووجدت بها كثيراً من المواقف المهمة التي تستحق أن تروى إذ كانت معرفتي بالدحلان محدودة لا تزيد على لقاء واحد بملتقى الثلوثية بالرياض للدكتور محمد المشوح قبل سنة ونيف.

وبالصدفة – قبل أن أقرأ الكتاب – كنت قبل أيام بضيافة جريدة عكاظ بجدة وهي تكرم عميد كتبتها عبدالله عمر خياط، وفي ختام الاحتفال كنت مع الدكتور عبدالمحسن القحطاني وهو يغريني بالذهاب معه للمنزل لتناول (البليلة) بدل العشاء الرسمي، وإذا الدكتور عبدالله دحلان مع مجموعة من الأدباء والوجهاء في طريق خروجهم من مقر الحفل فلمحني منتحياً عن طريقهم، فترك من معه وتوجه لي محيياً ولم يمهلني لأشكره على الهدية لأن المجموعة سريعاً ما أخذته معهم.
الكتاب به كثير من المواقف الجميلة التي ترتكز على الاعتماد على النفس، فمنذ صغره بمكة وبدايته مع التعليم واحتفائه بمدير مدرسته الثانوية العزيزية الشاعر محمد السليمان الشبل – والذي ترحم عليه مقدم الكتاب فؤاد محمد عمر توفيق – والرحمة للأحياء والأموات – ولكنه ما زال حياً يرزق، وقد لقيته قبل ثلاث سنوات بمناسبة زفاف ابنه سليمان بالرياض. وسألت عنه قبل أيام فعرفت أنه بصحة وعافية. كان والده يريده أن يواصل دراسته الجامعية في كلية التربية بمكة والتي كان يطلق عليها (كلية رضى الوالدين) ولكنه أصر على أن يعتمد على نفسه ويذهب لجامعة الملك سعود بالرياض مع مجموعة من زملائه، واستقلوا سيارة أجرة وكان قائدها شاباً في مثل سنهم وعندما علموا أنه حريف بلوت كثر وقوفهم في المحطات والاستراحات لشرب الشيشه ولعب البلوت. وهذا يذكرنا بما كان منه كمشجع لنادي الوحدة عندما قذف أحد المشجعين بزجاجة ببسي فارغة للملعب – بسبب هزيمة فريقهم فوقعت الزجاجة على رأسه فسال الدم بغزارة. مما حمل رئيس النادي الأستاذ عبدالله عريف لدعوة اللاعبين وبعض المشجعين ومن بينهم صاحبنا الدحلان. ولكونه مشجوج الرأس فقد احتفى به أكثر ووضعه بجانبه بل وأعطاه الشيشة زيادة في الإكرام وما درى أن مصور جريدة الندوة موجود، فما وعى بالغد إلا ووالده يؤنبه ويناوله الجريدة وإذا بصورته وهو ممسك بلي الشيشة. وهو بجوار أمين العاصمة رئيس النادي.
رُفض قبوله مع زملائه بجامعة الملك سعود فعادوا يجرون أذيال الخيبة، قرر زملاؤه الالتحاق بكلية رضا الوالدين – التربية – بمكة. أما هو فقد اتخذ أصعب القرارات في حياته – كما يقول – حيث قرر ألا يعود للمنزل إلا بشهادة النجاح، ولهذا حمل ملابسه التي جمعها بـ(البقشة) واستقل سيارة إلى جدة حيث جامعة الملك عبدالعزيز الأهلية حديثة العهد، اتجه لمكتب مدير الجامعة وإذا بشخص يقابله (طويلاً محترماً ذا لباس نظيف وصحة وعافية يلبس عقالاً من العيار الثقيل: عيناه واسعتان وبهما آثار كحل.. متميز.. ) فظنه مدير الجامعة أو على الأقل عميد الكلية فسلم عليه وسأله عن كيفية التسجيل فدله على مكتب الوكيل، عرف فيما بعد أن هذا (فراش) الكلية (أبو عيشة) فترحم عليه لكونه يخدم الطلبة قبل الدكاتره، وجد في الوكيل الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية الآن – كل ترحيب ونبل أخذه – بعد أن عرف قصته – إلى إدارة القبول والتسجيل، ولم يتركه إلا بعد أن أعطاه جدول الدراسة واصطحبه إلى مدرج 213 وفتح له الباب وأدخله إلى المحاضرة الأولى. لم يجد السكن المناسب لتأخره فبقي لفترة ضيفاً على بعض الطلبة في غرفتهم متحملاً النوم على الأرض، ذهب في إجازة عيد الفطر إلى مكة حيث والديه وقدمت له والدته سلفة ألف ريال وعلمته أخته الكبيرة بعض (الطبخات) والأكلات الحجازية.
عرف أن الطلبة المحتاجين يصرف لهم إعانة شهرية قدرها 300 ريال فذهب لوكيل الجامعة الجديد محمد عبده يماني فوجد طابوراً من الطلبة أخذ مكانه بينهم. فقدم المعروض لليماني فما كان منه الا أن صرخ فيه ومزق الورقة ورماها بسلة المهملات قائلاً: أنت تأخذ من حقوق الآخرين، فالصدقة لا تحل لك!! أنت من سلالة الرسول.. وبعد الغضب سأل ما العمل؟! فكتب معه خطاباً لمدير جمرك مطار الملك عبدالعزيز ليعمل بعد الظهر من الرابعة حتى الثانية عشرة ليلاً بستمائة ريال، وليشتري سيارة بالتقسيط ويتفق مع بعض الطلبة المقيمين في مكة ليحضر في الفجر لنقلهم للجامعة وإعادتهم بعد الظهر، مع نقل المعتمرين إلى مكة وكذا موسم الحج ولم تمض سنتان إلا وقد سدد قيمة السيارة الاحد عشر ألف ريال. وفي العطلة الدراسية ولعدم وجود من ينقلهم للجامعة عمل موزعاً للفواتير بشركة كهرباء مكة.
لقد بلغ به طموحه وتفوقه في الدراسة (كلية الاقتصاد/ قسم إدارة الأعمال)، وطبع كرتاً في نهاية المرحلة الثانوية وكتب عليه: (عبدالله صادق دحلان جامعة الملك عبدالعزيز كلية الاقتصاد والإدارة. قسم إدارة أعمال) وعندما وصل للسنة الثانية في الجامعة طبع كرتاً آخر كتب عليه: (عبدالله صادق دحلان. معيد قسم إدارة الأعمال. كلية الاقتصاد والإدارة). وعندما تخرج من الجامعة طبع كرتاً ثالثاً كتب عليه: (المحاضر عبدالله صادق دحلان، كلية الاقتصاد والإدارة، جامعة الملك عبدالعزيز) وعندما أصبح معيداً وبدأ درجة الماجستير طبع كرتاً كتب عليه (الدكتور عبدالله صادق دحلان). وهكذا ابتعث لدراسة الماجستير والدكتوراه في أمريكا وقبل ذلك رفض والده السفر قبل الزواج، وعندما وافق قال له اجمع المهر وابحث عمن ترضى عن دينك وخلقك.. وهكذا كان فقد تزوج وسافر مع عروسه في الليلة الأولى ومرا على لندن حيث شقيق زوجته الدكتور ضياء محمد موصلي، وذهبا بعد أن تركا أمتعتهما في الفندق وعند عودتهما اكتشفا سرقة حقيبته المهمة والتي بها الجوازات والفلوس وهدايا الزواج المهمة، فكره بعدها لندن والتي هجرها خمس عشرة سنة رغم أن البوليس اتصل بشقيق زوجته يطالب بحضور صاحب الشنطة، وتأخر في المراجعة خوفاً من أن يكون قد سلب ما بها. ولكن إلحاح البوليس والتهديد ببيع محتوياتها بالمزاد جعله يطلب من صهره الذهاب لهم فوجد الشنطة كما تركاها بجميع موجوداتها. إذ سرقها طالب عربي اكتشف بعد قراءة خطاب داخلها أنها تخص طالبا مثله وأنه حديث الزواج وليس معه سوى ما فيها، فرق حاله لهما وكتب معتذراً عن فعلته. عاد ليعمل مدرساً بالجامعة لينتقل بعدها أميناً عاماً للغرفة التجارية الصناعية بجدة ولمدة ثماني عشرة سنة، وعضوا في منظمة العمل الدولية ثم عضواً في مجلس الشورى ثم مؤسساً لكلية فجامعة متخصصة في مجال الأعمال والتكنولوجيا والتي تضم خمس كليات ومعهدين ثم حصوله على شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة (بيكنجهام شاير) البريطانية في 10 سبتمبر 2014م. الكتاب رغم صفره 213 صفحة متوسط الحجم إلا أنه مليء بالعبر والمواقف الرجولية وتحدي كل صعب. والكفاح المتواصل والاعتماد على النفس واقتحام المجهول بكل ثقة وعزيمة وإصرار، بل وتحدى الفشل، تحية تقدير واعزاز لأبي صادق ورجاء وأمل من شبابنا أن يطلعوا ويعتبروا على مثل هذه السيرة ليتسلحوا بالعزيمة وقوة الإرادة للوصول إلى الهدف مهما كان صعباً وبعيداً:
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.