بدأ ضيفي الذي حضر إلى جدة من قريته البعيدة طلبا للعلاج، يشعر بالملل من مكوثه الطويل بمشفاه، فصار يهاتفني بين الفينة والأخرى إما لزيارته أو للترويح عنه وتسليته، بادرني عند دخولي غرفته هذه المرة ببيت شعر قديم يقول: «ولابد من شكوى إلى ذي مروءة، يواسيك أو يسليك أو يتوجع». قلت له: عجبا، قبل أيام جردتني من الحسنات واليوم تقلدني وشاح المروءة، قاتل الله الحاجة. تجاوز عن تعليقي وواصل حديثه بنبرة شابها الحزن: ضقت بمدينتكم الكبيرة هذه وافتقدت قريتي الصغيرة وهدوءها وناسها. قلت محاولا مواساته: لا تبتئس ولا تحزن فنحن سكان مكة المكرمة نعاني كذلك.
رفع حاجبيه مستغربا، فواصلت حديثي: نعم نحضر إلى جدة للعلاج وللنزهة وللترفيه عن أنفسنا وأطفالنا وللتسوق، وأيضا لقضاء بعض مهامنا المعلقة مثل مراجعة بعض الدوائر الحكومية التي تتخذ جدة مركزا لها ثم تتفرع بعد ذلك في مكة، بل إن بعض كبار مسئولي مكة يقطنون جدة ترفها وتمتعا. نأتي إلى جدة لمراجعة قنصليات حتى الدول المسلمة، بعد أن كانت جميعها ممثلة ولها حضور أقوى في مكة. قال محدثي: على رسلك، فحسب علمي مكة المكرمة تعتبر ثالث مدن المملكة سكانا، وكل فروع الوزارات فيها من الفئة (أ) قلت: أضف إلى معلوماتك إذن أن مكة أكثر مدن المملكة سكانا معظم أيام السنة، فالعمرة أضحت مفتوحة طوال العام، وموسما رمضان والحج متصلان تقريبا، وبرغم هذه الأعداد الغفيرة التي تأتي لتسكن مكة، لا يوجد بها مطار ولو صغير مع وجوده في مدن تصغرها بكثير وتقل عنها أهمية بكثير، فنضطر نحن سكانها للذهاب إلى جدة للسفر سواء إلى داخل المملكة أو خارجها، كل هذا يشكل ضغطا على كل الخدمات المقدمة فيها، ويشكل ضغطا مضافا على سكانها ينشأ عنه ما نسميه في مكة بالتكاليف الاجتماعية غير المنظورة.
قال محدثي لاشك أنك تبالغ، فتدني الخدمات موجود في أي مكان ويعالج تباعا. قلت أعلم ذلك ولكن، بالإضافة لمكانة العظيمة مكة وقدسيتها في كل النفوس المسلمة، هي واجهتنا أمام كل زوار المملكة، مع ذلك فبعض مستشفياتها هي الأدنى بين مستشفيات مدننا الكبرى، مطاعمها فنادقها أحياءها الأكثر شعبية على مستوى المملكة، شوارعها سيئة سفلتة وتخطيطا وتنظيما فلو توضأت على أحدها لخدشت حياءه فيذوب تحت قدميك، وإن اتبعت مسميات شوارعها تهت وأنت ابنها بين شعابها، وإن أحسنت الظن بتنظيمها فوصفته لحاج أو معتمر فقد يبات الليل بحثا عن فندقه أو يفترش مكانا حول الحرم، لا يوجد لمكة خرائط فإن وجدت فلا توزع، بحر مكة على سعته لم يجد من يفكر في عمل كورنيش عليه لنزهة أهل مكة، إنارة الشوارع رصف الشوارع، كل هذا متدن عن جدة، فهل يصح أن نهتم بالبوابة ونهمل أو نترك المدينة؟
قال محدثي لا تحسد أهل جدة. قلت: أحسدهم؟ ليتك تسمع شكواهم، وأنا لا ألومهم في الجأر بالشكوى كما فعل أستاذنا محمد الحساني قبل فترة هنا، بل أطالبهم بالمزيد منها لرفع سقف الخدمات المقدمة لديهم، وأطالب أهل مكة المطالبة بتحسين الخدمات لديهم. قال ضاحكا: تطلب من أهل مكة الكلام! وهم المشهورون بـ«طلاوة» اللسان (استخدم هو لفظة أخرى لا علاقة لها بالضرورة بالمسافات والقياسات) أجبته: كان زمان، المشكلة أن كثيرين لا يفرقون بين مكة المكرمة كمدينة خدمات للحجاج والمعتمرين وبين كونها أيضا مدينة سكنية لمئات الآلاف من الناس الذين لهم احتياجاتهم المضافة لاحتياجات الحجاج والمعتمرين. ثم إن الأمر لا ينحصر في الخدمات العامة، بل ينطبق أكثر على القطاع الخاص، فمثلا مستشفيات جدة الخاصة لا تقارن ببعض مثيلاتها في مكة، ولا حتى الفنادق ولا المطاعم، أما أمور الترفيه والنزهة فحدث ولا حرج، هل تعلم يا سيدي أن أهل مكة يتنزهون مع أطفالهم في مواقف سيارات الحجاج المسفلتة الصلبة، لندرة الحدائق العامة وأماكن الترفيه فيها.
حاولت تغيير مجرى الحديث فقلت: دعنا من مكة الآن.. خبرني عن قريتك، ماذا فيها ولم تركتم أبناءكم يتركونها، واستقدمتم عمالة بدلا منهم، كيف يستقيم هذا مع توطين البادية ومنع الهجرة والتدفق إلى المدن؟ أجاب بنبرة أسى: وماذا نعمل إذا كانت المدارس الجيدة لا توجد إلا في المدن، وكذلك الجامعات والمعاهد التقنية والفرص الوظيفية، ولا تنس العلاج والنزهة؟
رفع حاجبيه مستغربا، فواصلت حديثي: نعم نحضر إلى جدة للعلاج وللنزهة وللترفيه عن أنفسنا وأطفالنا وللتسوق، وأيضا لقضاء بعض مهامنا المعلقة مثل مراجعة بعض الدوائر الحكومية التي تتخذ جدة مركزا لها ثم تتفرع بعد ذلك في مكة، بل إن بعض كبار مسئولي مكة يقطنون جدة ترفها وتمتعا. نأتي إلى جدة لمراجعة قنصليات حتى الدول المسلمة، بعد أن كانت جميعها ممثلة ولها حضور أقوى في مكة. قال محدثي: على رسلك، فحسب علمي مكة المكرمة تعتبر ثالث مدن المملكة سكانا، وكل فروع الوزارات فيها من الفئة (أ) قلت: أضف إلى معلوماتك إذن أن مكة أكثر مدن المملكة سكانا معظم أيام السنة، فالعمرة أضحت مفتوحة طوال العام، وموسما رمضان والحج متصلان تقريبا، وبرغم هذه الأعداد الغفيرة التي تأتي لتسكن مكة، لا يوجد بها مطار ولو صغير مع وجوده في مدن تصغرها بكثير وتقل عنها أهمية بكثير، فنضطر نحن سكانها للذهاب إلى جدة للسفر سواء إلى داخل المملكة أو خارجها، كل هذا يشكل ضغطا على كل الخدمات المقدمة فيها، ويشكل ضغطا مضافا على سكانها ينشأ عنه ما نسميه في مكة بالتكاليف الاجتماعية غير المنظورة.
قال محدثي لاشك أنك تبالغ، فتدني الخدمات موجود في أي مكان ويعالج تباعا. قلت أعلم ذلك ولكن، بالإضافة لمكانة العظيمة مكة وقدسيتها في كل النفوس المسلمة، هي واجهتنا أمام كل زوار المملكة، مع ذلك فبعض مستشفياتها هي الأدنى بين مستشفيات مدننا الكبرى، مطاعمها فنادقها أحياءها الأكثر شعبية على مستوى المملكة، شوارعها سيئة سفلتة وتخطيطا وتنظيما فلو توضأت على أحدها لخدشت حياءه فيذوب تحت قدميك، وإن اتبعت مسميات شوارعها تهت وأنت ابنها بين شعابها، وإن أحسنت الظن بتنظيمها فوصفته لحاج أو معتمر فقد يبات الليل بحثا عن فندقه أو يفترش مكانا حول الحرم، لا يوجد لمكة خرائط فإن وجدت فلا توزع، بحر مكة على سعته لم يجد من يفكر في عمل كورنيش عليه لنزهة أهل مكة، إنارة الشوارع رصف الشوارع، كل هذا متدن عن جدة، فهل يصح أن نهتم بالبوابة ونهمل أو نترك المدينة؟
قال محدثي لا تحسد أهل جدة. قلت: أحسدهم؟ ليتك تسمع شكواهم، وأنا لا ألومهم في الجأر بالشكوى كما فعل أستاذنا محمد الحساني قبل فترة هنا، بل أطالبهم بالمزيد منها لرفع سقف الخدمات المقدمة لديهم، وأطالب أهل مكة المطالبة بتحسين الخدمات لديهم. قال ضاحكا: تطلب من أهل مكة الكلام! وهم المشهورون بـ«طلاوة» اللسان (استخدم هو لفظة أخرى لا علاقة لها بالضرورة بالمسافات والقياسات) أجبته: كان زمان، المشكلة أن كثيرين لا يفرقون بين مكة المكرمة كمدينة خدمات للحجاج والمعتمرين وبين كونها أيضا مدينة سكنية لمئات الآلاف من الناس الذين لهم احتياجاتهم المضافة لاحتياجات الحجاج والمعتمرين. ثم إن الأمر لا ينحصر في الخدمات العامة، بل ينطبق أكثر على القطاع الخاص، فمثلا مستشفيات جدة الخاصة لا تقارن ببعض مثيلاتها في مكة، ولا حتى الفنادق ولا المطاعم، أما أمور الترفيه والنزهة فحدث ولا حرج، هل تعلم يا سيدي أن أهل مكة يتنزهون مع أطفالهم في مواقف سيارات الحجاج المسفلتة الصلبة، لندرة الحدائق العامة وأماكن الترفيه فيها.
حاولت تغيير مجرى الحديث فقلت: دعنا من مكة الآن.. خبرني عن قريتك، ماذا فيها ولم تركتم أبناءكم يتركونها، واستقدمتم عمالة بدلا منهم، كيف يستقيم هذا مع توطين البادية ومنع الهجرة والتدفق إلى المدن؟ أجاب بنبرة أسى: وماذا نعمل إذا كانت المدارس الجيدة لا توجد إلا في المدن، وكذلك الجامعات والمعاهد التقنية والفرص الوظيفية، ولا تنس العلاج والنزهة؟