-A +A
محمد المختار الفال
البعض لا تعجبه لغة التجييش وأسلوب الاصطفاف الذي تتسم به بعض المناقشات في وسائل الإعلام.. وهذا شيء جيد؛ لأنه يدعو إلى العقل وقبول الآخر في إطار البحث عن المشترك وتعظيمه بدلا من رصد نقاط الاختلاف وإبرازها.. لكن هذا البعض ينحاز، من حيث لا يشعر، حين يتخير من التحليلات والآراء ما يوافق رؤيته بحجة أنه «عقلاني»، فإذا فحصت هذه العقلانية وجدتها تتحاشى الآثار السلبية للتدخل الإيراني في المنطقة العربية وما يسببه من نزاعات واضطرابات، ويقفز على هذا العامل إلى أن الأسباب الداخلية وأخطاء الدول وفشلها في إقامة نظام يستند إلى مبدأ المواطنة والمساواة هي مصدر العلل والخلل. وحين يناقش أخطاء الدول تراه يركز الضوء على موقفها من الأقليات وعدم استيعابها بما تقتضيه حقوق المواطنة. وهنا تتكشف حقيقة «العقلانية المنقوصة»، إذ يتضح أنها صيغة للالتفاف من أجل التعبير عن أصوات معينة ترى أنها مغيبة، وأن تهميشها هو الذي أفرز ما نشاهده اليوم من اضطرابات ودماء على امتداد الوطن العربي..
حسنا، لا أحد ينكر وجود أخطاء في التجربة العربية وممارسات بعض الأنظمة، لكن هذا ليس ذريعة «عقلانية»، ولا موقفا شجاعا لمن يريد التعبير عن فئة معينة، فهو أسلوب مكشوف مهما تدثر بغلالة العقلانية المزعومة..

لا شك في أن لغة التجييش والاصطفاف وإثارة الخلافات وتسليط الضوء عليها أساليب يجب أن ترفض من الجميع؛ لأنها لا تساعد على إزالة أسباب التوتر، ولا تسهم في الأمن والسلم الاجتماعي، لكن تجاهل الأسباب الواضحة الأخرى بحجة العقلانية والموضوعية عمل لا يتسق مع المنطق الذي هو ثمرة من نتاج العقل..
وحتى نصارح تلك الأصوات بالعقلانية التي يباهون بها سنكون أكثر صراحة ووضوحا ونقول لهم: لا أحد منصفا يتجاهل الأخطاء التي أدت إلى تفتيت بعض الدول العربية وتآكل مساحاتها وما تتعرض له من التشظي، وأن معالجة تلك الأخطاء ضرورة ملحة تستوجبها المسؤولية عن حفظ الأوطان وصيانة وحدتها، كل هذا عقلاني ومطلوب، لكن هل الحديث عن التدخلات الخارجية وأطماع بعض الدول الإقليمية في «التوسع وإثارة النعرات العرقية والطائفية» عمل غير عقلاني؟.. كيف يمكن للعقل أن يتجاهل هذه الحقائق الماثلة أمامه، بكل شواهدها وآثارها؟، إذ كيف للعقل أن ينكر أو يتجاهل الأطماع الإيرانية في المنطقة العربية، وهي تتسع يوما بعد يوم..؟
الدعوة للعقلانية أمر محمود؛ شريطة أن يحترم الداعون العقل ومنطقه مهما كان انتماؤه ودوافعه.