-A +A
محمد المختار الفال
إذا كان لمناخ الاصطفاف وفرز المواقف السياسية والفكرية والمذهبية الذي يسود المنطقة من فوائد، فهي أنها أخرجت سخائم النفوس وحقيقة ما تضمره القلوب والعقول من معتقدات وأفكار وأظهرتها للسطح، ليتكفل نشطاء في الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي بإشاعاتها وترويجها..
وهذه المكاشفة، التي تشبه (التعري)، فضحت زيف الكثير من الأفكار وتدليس أصحابها وخداعهم لمتابعيهم ومن يقرأ أو يستمع لهم، فهؤلاء أوهموا الناس بأنهم من دعاة التقارب والتآخي ومحاربة العنصرية والجهوية والعرقية والمذهبية، لكن تمايز الصفوف وتحديد المواقف كشفا حقيقتهم وأظهرا عدم أصالة ما يصدر عنهم من شعارات براقة صدعوا بها الرؤوس دون أن تثمر شيئا.. لقد عاشت المنطقة ــ بسبب خطاب هؤلاء ــ زمنا طويلا في «حالة نفاق» أفقدت الحقيقة قيمتها وتأثيرها ودورها في مساعدة المتلقي على فهم ما يجري من حوله والحكم على الأشياء بمنطق العقل، وضللت المتلقين وعمّت عليهم وحرمتهم من معرفة الواقع..

ولكن هناك من ساهم في «التضليل» ببراءة وحسن نية؛ ظنا أن مداراة المخالف وإخفاء المشاعر الحقيقية تجاهه سيؤدي في النهاية إلى تقريب المسافات والتفاهم والانسجام بعد تجاوز عقبات الخلاف. وهؤلاء «الطيبون» من ذوي النيات الحسنة والأهداف النبيلة ستظل لهم قيمة وأثر حميد بشرط أن يتحركوا في ساحة يعرفون طبيعتها ومداخلها. وهم لا يشكلون خطرا على المصداقية وأهمية تحديد المواقف؛ لأن أهدافهم نبيلة تسعى لتوسيع دائرة التفاهم بين المختلفين.. لكن الخطر المؤذي يأتي من أولئك «المدلسين» الذين يتخفون خلف الأقنعة حتى لا تتكشف حقيقتهم، فيظهرون المودة ويضمرون الشر والأحقاد والكراهية.. هؤلاء هم الذين يفسدون القيم ويسممون العقول والمشاعر ويزرعون الشك في تربة المجتمعات، فلا تعود قادرة على التسامح والتجاوز..
و«حالة» النفاق هذه انطلت حيلها وألاعيبها وأقنعتها على الكثيرين، فصدقوها وتحمسوا لأصحابها، بل ودافعوا عنهم في المحافل والمجالس ووسائل الإعلام. ومن يتابع وجوها على القنوات الفضائية سيكتشف حجم الخديعة التي وقع فيها هؤلاء، فتلك الوجوه كان يظن أنها من أهل الحق والإنصاف، وأنها لا تجامل أحدا ولا تعتدي على المخالف بالإساءة والفحش في القول، فإذا هي تقف مع الظالم وتزين له الظلم والقسوة وتهون من شأن الحق والعدل إذا خالف مصلحة أولياء نعمتها.. وهذا التشوه في القيم تبدو معه «سماء البث» كأنها موبوءة بأمراض معدية تفسد الأخلاق والذمم.. ومن يتابع بعض القنوات العربية سيرى وجوها كنا نظن أنها معنا يوم كانت تعتاش من وسائل يملكها خليجيون، فإذا هي تتنكر لماضيها دون أن تقدم ما يقنع المشاهد بأنها تنطلق من مبدأ دفعها لتغيير مواقفها انتصارا للحق.
(إنها «حالة نفاق» لا غير).