-A +A
محمد عبدالرزاق القشعمي

قلت في المقال السابق إنني سأعود لأستعرض لكم ما علق في ذهني وما أعتقد أنه يهم القارئ.
فبعد أن قاطع طلبة العلم – المعهد العلمي ببريدة – التدريس فيه لعدم انسجامهم مع الغرباء كما قالوا. فحاول استمالة عدد من زعمائهم لعلهم بعد اتصالهم بالمدرسين الأجانب ويخبرون المعهد عن كثب يغيرون رأيهم ويغيرون بذلك رأي المقلدين، فحدد لهم تدريس العلوم الدينية، خصوصا وقد أشاعوا أن المعهد سيعلمهم علوما تخالف القرآن والسنة وأن الطلاب سيذهبون للعسكرية مما حمل بعض أولياء الأمور إلى منع أبنائهم من الدراسة فأشاعوا بأن الازدحام كان كثيرا على أماكن الذين خرجوا، فبدأ المتعصبون يضايقون طلاب المعهد مما حمل العبودي التنبيه على الطلاب بأن من يتخلف عن الصلاة بالمسجد أو يفعل ما يمس دينه أو كرامته بسوء فإنه سوف يعاقب ثم يفصل من المعهد. ثم أشاع أن الطلاب المجيدين سوف يعينون في القرى البعيدة قضاة، حتى يقال إن هذا هو مصير طالب المعهد، ثم بدأوا يقدحون بمن يحلق لحيته أو يقصرها وهم يقصدون أساتذة المعهد من المصريين «.. وقد نبهنا عليهم أن يراعوا توفير لحاهم، فاعتذروا بأن العرف لديهم في مصر لا يعيب على طالب العلم أو رجل الدين أن يحلق لحيته أو يقصر منها، فقلت: لنا عرفنا ولكم عرفكم.. فأجابوا بالإيجاب». وقد جاء الشيخ عبدالرزاق عفيفي الذي أمضى عدة سنوات مدرسا بمعهد الرياض، جاء من الرياض لكي يبين للأساتذة المصريين كيف يعملون ويتعاملون مع الناس، وقد بقي شهرين يعلمهم ويفسر لهم بعض العبارات والمعاني التي لا يفهمونها مثل (مالك سنع) التي فسرها لهم خطأ عفيفي أن معناها: مالك صنع أي ليست له علاقة به ولا صنعة منه، ومثل (سمطا) عندما يقدم لهم الفراش فنجان قهوة أو شاي يقول لهم: (سم طال عمرك) فهو يسمع الكلمة الأولى فقط (سمطا) فيسأل عن معناها، والمدرس الذي بعث الفراش بمنزله ليحضر له أحد الدفاتر التي نسيها «.. فقال له: احضر لي الكراس من البيت، فأسرع هذا وأحضر (الكراث) الذي في البيت إلى المعهد، ظنه يقول (كراث)! لأنه البقل المعروف». وقد لقي مدرس الجغرافيا الكثير من الاعتراضات عندما يقول أن الكسوف والخسوف قد يدركان بالحساب. وقال إن آل الراشد استأذنوا الشيخ ابن حميد في جلب مكينة كهربائية صغيرة و(ميكرفون) أي مكبر صوت لإنارة جامع بريدة، وقد وافق الشيخ، ولكن وقت إحضارها كان الشيخ بمكة فانتظروا وصوله «.. خوفا من معارضة الإخوان فهم يعارضون الشيء الجديد في الأمور الدينية ولو كان مباحا).. وعند تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة جرى تعيينه أمينا عاما لها من عام 1380هـ نجده يقول: «كلنا نعلم وربما يعلم كل الناس المتابعين لإنشاء الجامعة أنها فكرة الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله، فهو الذي أصر على إنشائها كما قدمت» وإن لم يتمكن من زيارتها، وفي عام 1394هـ نجده ينتقل للعمل بالرياض بوظيفة (الأمين العام للدعوة الإسلامية وأمين الهيئة العليا) وهذه الأمانة لنشر الدعوة الإسلامية وترتبط إدارياً برئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وكان اختياره لخبرته الواسعة وتعيينه في المرتبة الخامسة عشرة، وكان يرأس الهيئة العليا وزير العدل الشيخ محمد الحركان، ويشترك بالأمانة وزراء الحج والأوقاف والمعارف والعدل والمالية والاقتصاد والوطني وأمين عام رابطة العالم الإسلامي.
ثم بدأ بحكم عمله الجديد القيام بالمهمات والزيارات لتفقد أحوال المسلمين في العالم وكانت أولاها زيارة الفلبين ومقابلة الرئيس فرديناندو ماركوس الذي استقبله مع الوفد والسفير السعودي عند باب الغرفة وقال يصفه بدقة متناهية بمظهر الصيني الكهل رغم أنه كما قيل في الخامسة والستين إلا أنه يبدو أقل من ذلك «.. وإنما المهم صرامة ظاهرة في عضلات وجهه لا تخفيها ابتساماته السياسية المعتادة عند قدوم الضيوف الأجانب، بل إنه حديدي الملامح، ولا نقول النظرات، لأن عينيه كعيني الصيني العريق صغيرتان إلى درجة أنك لا تلمح الانفعالات فيهما لأنهما يختفيان من وجهه عندما يبتسم أو يفكر... ولكن العينين الصغيرتين إذا استطاعتا أن تخفيا الدلالة على انفعالات صاحبهما هذا فإن ما حولهما من خطوط كثيرة تسترخي عند الارتياح وتتوتر عند عدم الارتياح كانت تقوم مقام ذلك...». وقد وصف مكتبه وأعجب بما يحويه من كتب شغلت حوائط الغرفة الواسعة من الأرض إلى السقف، وهي مليئة بالكتب المنسقة... وقال في نفسه: كم من الرؤساء في البلدان العربية يهتمون بأن تكون في المكتب الذي يقابل فيه الرئيس الضيوف الأجانب مكتبة فيها كتب قيمة؟ وقد استمرت المقابلة أربعين دقيقة. وفي الهند نجده يذهب إلى بنارس مدينة البراهمة والهياكل المقدسة «.. و(دركاكند) وهو هيكل القردة المقدسة عندهم، والهنادك يحجون إليها من أقطار البلاد، ويزعمون أنه من مات بها نجا لا محالة...» ذهب إلى نهر الكنج المقدس عند الهنادكة، وقال: «.. هذه الضفة الشمالية ماؤها طاهر، بل مقدس، والميت الذي يغمس فيها ويتطهر قبل حرقه يبعث ملكا - بفتح اللام -، أما الضفة الأخرى الجنوبية فإن ماءها لا يطهر، والميت الذي يغمس فيها يبعث حماراً، ولذلك ترى الناس كلهم يغتسلون في مياه الضفة الشمالية..»، ثم علق قائلاً فالعقل يقول بالعكس وذلك بأن الضفة الشمالية هي التي تأتي إليها الأوساخ من مجاري البيوت القائمة عليها، ثم ذهب إلى المحرقة وبدأ بوصفها ومكانة صاحب المحرقه وأنها مهنة وراثية، ولها طقوس ومراسم لا بد منها: «.. وإنه لا يمكن أن يحرق ميت إلا بإذن هذا الرجل الذي يرى ما إذا كانت الأوراق المطلوبة لإتمام الحرق متكاملة الإجراءات أم لا»، ثم بدأ يصف الحرق إلى أن قال: «.. وقد جاؤوا بالحطب من كومة كبيرة معدة لذلك، وأخذوا يصفونه على الأرض صفاً عرضاً وطولاً، ثم حمل اثنان منهم الميت وغمسوه في ماء النهر ليتطهر من الذنوب في زعمهم، ثم حملوه ووضعوه على الحطب ووضعوا فوقه أيضاً حطباً وأوقدوا فيه النار حتى احترق».. ثم نجده عند زيارته للسنغال يكتب بإعجاب عن الرئيس سنقور وأنه «.. شخصية استثنائية أي غير تقليدية، فهو مثقف ثقافة غربية فرنسية راقية، وهو أديب له مؤلفات أدبية تدرس وترجمت إلى عدد من اللغات، وكان كتبها بالفرنسية» وقال إنه مسيحي من قبيلة صغيرة وقال عنه: «وهو أيضاً رئيس مسيحي لشعب أكثريته الساحقة من المسلمين، ومع ذلك لم تثر هذه الأشياء ثائرة الناس ضده، إذ عرف بالعقل والحصافة» وقال إنه رجل ذو سمعة واسعة في العالم، فهو مثقف بل هو شاعر وله عدة مؤلفات وهو يعد من فلاسفة الأفارقة المفكرين، وقد سر لمقابلته والتعرف عليه، ووصف هدوءه ورزانته وكلماته الموزونة الخالية من المبالغة. وفي نهاية اللقاء قال: «إن الرسول محمداً عربي وإن التعاون مع العرب أمر نحتاج إليه، ثم تكلم عن التعاون العربي الأفريقي وإن منه كون مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية سينعقد في السنغال».. وأبو ناصر – حفظه الله – محب للعرب والعروبة كمحبته لما سافر من أجله وهو نشر الدعوة الإسلامية وتفقد أحول المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، نجده في استراليا مع أعضاء اتحاد المجالس الإسلامية في سيدني ولا بد أن يتحدث اليهم فيقول: «وكنت أتكلم بالعربية رغم استطاعتي الكلام بالإنكليزية فقد كانت هذه عادتي ألا أتكلم بغير العربية، إذا كان ثم من يفهمها... وأحد الإخوة من طرابلس في لبنان غير الرئيس وبعض الأعضاء لا يفهمون العربية فكان الإخوان مع الشيخ شفيق الرحمن يتسابقون إلى الترجمة من العربية إلى الإنكليزية..». أما في نيوزلندا الذين لا يعرفون العربية فيقول: « فألقيت فيهم كلمة بالإنكليزية فيها طول لأنه ليس فيهم من يحسن العربية فيستطيع أن يترجم كلامي وإلا لما خطبت بغير العربية». وهذا يذكرني بموقف أحد وزراء الثقافة والإعلام السابقين في بلادنا وفي مركز الملك فهد الثقافي بالرياض عند إقامة حفل حضره وزير الخارجية البريطاني، إذ خطب وزيرنا باللغة الإنكليزية. وقال إن أحد طلبة جامعة القصيم واسمه عمران آل أحمد يؤلف رسالة للماجستير عن رحلاته إلى البرازيل. التي ألف عنها ستة كتب وهي: (1) في شرق البرازيل، (2) في جنوب البرازيل، (3) في الشرق الشمالي من البرازيل، (4) وسط البرازيل، (5) شمال البرازيل، (6) العودة إلى البرازيل. يقول إنه زار من طقة البلطيق، وقد تجول في لتوانيا وقال: «..وتجلى جهل المسلمين بالدين الإسلامي، حتى أن إماماً عندهم سألناه كم عدد ركعات الظهر فقال: إنها أربع، قال: ولكننا نصلي اثنتين لأنني رأيت الطلبة المسلمين الدارسين عندنا في المعهد التكنولوجي يصلون اثنتين، وكان رآهم يصلون الجمعة فظن أنها الظهر، وواحد آخر إمام مسجد في بلدة أخرى في جنوب لتوانيا، قال نصلي الجمعة الأولى من الشهر وهي أول جمعة تكون فيه وتكفينا عن صلاة الجمعة في الشهر كله..». وزار بلاد الشركس وعاصمتها ميكوب وقابل نائب رئيس الجمهورية وقال له: «إنه يسرنا أن ندعوكم على ضيافة الرابطة لأداء مناسك الحج والعمرة، فالتفت إلى أحد كبار القوم الذين عنده وقال لهم بلغتهم: ولكن كيف أذهب إلى مكة وأنا لا أعرف كيف أصلي؟..». وزار عام 1410هـ جمهورية (بشقردستان) في روسيا وعاصمتها (أوفا) وقال إن مدينة (مورمانسك) الواقعة على المحيط المتجمد الشمالي «.. زرناها زيارة رسمية وتمتعنا برؤية الشمس التي لم تكن تغيب عنها أبداً عندما زرناها في 22 من شهر يونيو». وعندما ذهب إلى (تاهيتي) في أقصى المحيط الهادي، الجنوبي لم يجد فيها مسلمين فألف كتاب (تائه في تاهيتي). لعلي أختم رغم أن هناك الكثير مما يستحق الذكر، ولكن لا بد من الإشارة أو على الأصح العودة إلى أسلوبه في كتابة يومياته في هذه الرحلات فيقول: «ومما يسر لي أنني أكتب عما أصادفه من المعلومات أو المرئيات أو حتى الأخباريات التي لا أستطيع الوصول إليها بنفسي، وإنما أستعلم عنها ممن يعرفها وإن كنت لا آخذ بالمعلومات كلها قضية مسلمة، وإنما أمحصها وأعرضها على مراجع أخرى. ولكن قصدت أول الأمر بكتابة اليوميات غرضين أحدهما أخذ التقيد الرسمي منها، والثاني طرأ علي بعد الأول وهو أن أوفر معلومات عن أحوال المسلمين في البلدان النائية مع المعلومات الأخرى المهمة عن بلادهم...». وقال: «أما عن أمريكا الجنوبية فإنني زرت كل أقطارها بدون استثناء... ومن توفيق الله لي أنني أكتب ما شاهدته أو استنتجته مما شاهدته في كتاب يسجل الزيارة ويذكر أحوال المسلمين». وقال إن زوجته أم ناصر قالت له: «كل رحلاتك الكثيرة الطويلة التي شملت العالم كنت تذهب بدوني، وأقوم أنا بشؤون البيت وتربية الأولاد أثناء غيابك، وإنني اتطلع إلى أن أذهب معك في إحدى الرحلات، فقلت لها: صدقت، ونعمت عين، فسوف أحصل على إجازة لمدة شهر أقضيها معك ومع البنتين في المكان الذي تختارونه، فتشاورت مع بناتها وأبنائها وقالت نختار الذهاب إلى المغرب..». وهكذا قضى معهم شهرا في مدن المغرب ونواحيه، ومع ذلك ألف عنه كتاب (الإشراف على أطراف من المغرب العربي) قال أنه قد أطال على القارئ وخشي عليه من الملل.. «لقد طال الحديث عن الرحلات العالمية، وما زالت الجعبة مليئة بالأخبار عنها، وسألت نفسي عن أثر الاسترسال في الحديث عن تلك الرحلات التي ذكرت هنا كثيرا منها وإن لم يكن أكثرها، وما بقي فهو مهم أيضا، ولكن لم يبق للصبر عليها موضع في قلمي، ولا في نظر قراء كتابي فيما أظن».
ولا ننسى ما تعرض له من إيقاف وتحقيق في (فيجي) ولأنها كانت كالهند أرضا بريطانية، فأرسل القذافي أسلحة لجهة استراليا كمساعدة للهنود لمقاومة الفيجيين الأصليين. فظنوا أن له علاقة بها. وختاما لا يسعني إلا أن أشكر شيخنا العبودي على هذه السياحة الممتعة والغريبة وأضم صوتي وتساؤلي مع الدكتور محمد المشوح: «ألا تستحق (سبعون عاماً) من العمل الدعوي والعلمي والثقافي لخدمة المسلمين أن ينال على إثرها جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام والمسلمين».