على مسافة تصل إلى 800 كم، بدءا من جدة، ووصولا إلى جازان، يتربص الموت بالعابرين، فلا منطقة آمنة ولا متر دون ذكرى أليمة.
العابرون أطلقوا على الطريق أكثر من اسم، مرة «طريق الموت» وأخرى «المجزرة»، وثالثة «الثعبان الأسود»، وجميعها تتفق على تابوت واحد يلف الضحايا العابرين.
تقف قرى الشريط الساحلي على طريق جدة - جازان، شاهدا على مآسي الحوادث المرورية التي تسجلها إحصاءات المرور بشكل يومي، فكل السكان لديهم من قصص الدماء وتشابك الحديد، وكل قائد مركبة أصبح بمقدوره أن يساهم في إنقاذ المصابين ونقل الجثث، وذلك لقلة مراكز الإسعاف في الطريق، ولكن المشكلة أن قرى الساحل تسجل أسماء ضحايا خرجوا في يوم إلى الطريق ليعودوا جنائز، فلا بيت يخلو من كارثة، فإذا لم يشهد وفاة أحد أفراد الأسرة على الأسفلت فمن المؤكد أن قريبا لها توفي بهذه الصورة، فالطريق شكل إرشيفا من صور المآسي والحوادث التي مازالت راسخة في أذهانهم، وجعلت منهم شهود عيان بالإكراه.
وبمرور الأيام تطورت حواسهم وكأنهم يشتمون رائحة الموت، فسخروا أنفسهم متطوعين ما استطاعوا، فلا يمر يوم دون أن يسجل حادث مأساوي، ولا أسبوع دون حصاد جديد.
قصة الضحايا
بدأت قصة الموت في طريق الساحل عندما كان الطريق مزدوجا، ويخدم كل القرى والمحافظات على طريق الساحل الجنوبي من الليث جنوب جدة إلى حدود جازان، عندها كانت المأساة الحقيقية، فتضاعفت الوفيات لأن حوادث التصادم كانت دائما ما تقع بين سيارتين متواجهتين، أو تكون الشاحنات الكبيرة طرفا فيها.
وبحسب الإحصاءات السابقة لمستشفى القنفذة فإن الحوادث في تلك الفترة كانت تتجاوز الـ 90 %، منها 60 % تؤدي للوفاة.
وتشير إحصاءات أمن الطرق إلى أن أكثر من 30 في المائة من حوادث الطريق تقع بسبب الإبل السائبة على جانبي الطريق، التي تعترض طريق السيارات العابرة فجأة ولا يمكن تفاديها، إما بسبب السرعة الزائدة، أو بسبب عدم وجود علامات مضيئة على هذه الإبل التي تعبر الطريق ليلا مسببة الكثير من الحوادث.
معاناة الموظفين
الموظفون المقيمون في جدة ومكة والمعينون في محافظة الليث وقراها، هم أصحاب المعاناة الحقيقية وشهود على الحوادث التي تقع يوميا على قارعة الطريق، ومسعفون طارئون للحوادث.
علي المربعي من سكان جدة ويعمل في قرية تابعة لمحافظة الليث، قرر مع مجموعة من زملائه الذهاب يوميا من جدة بدلا من السكن في قرى الليث حيث يقل توفر المنازل المناسبة والجو الذي اعتاد عليه في جدة، ولكن هذا القرار كلفه كثيرا حيث يعرضه وزملاءه إلى الخطر حيث يمكن أن يواجهوا حادثا في أي وقت.
تحدث علي عن المعاناة اليومية مع طريق الساحل: «قررت مع مجموعة من المعلمين أن نذهب يوميا إلى المدرسة من جدة، ومضى علينا أكثر من عشر سنوات على هذا الحال، مما جعلنا نرصد الكثير من الكوارث التي وقفنا عليها في الطريق، وأكثرها مأساوية اصطدام سيارة كانت تقل عائلة مكونة من ستة أفراد بشاحنة كبيرة بعد صلاة الفجر مباشرة، مما أودى بحياة الأسرة بأكملها، وكان الحادث يبعد عن مدينة جدة مائة كيلومتر تقريبا، دفعنا للتوقف ومحاولة إنقاذ الأسرة، طلبنا الهلال الأحمر وكان يبعد عن موقع الحادث أكثر من 80 كيلومترا تقريبا ولم يصل إلا بعد مضي ساعة أو أكثر، بعد أن فارق الجميع الحياة».
المعلم عبدالله الغامدي هو الآخر يقطع طريقه من جدة إلى مدرسته التي يعمل بها في يلملم، واضعا يده على قلبه في كل مرة، يسلك فيها الطريق ذهابا وإيابا، ويعتبر أن كل يوم يمر عليه في طريق الساحل هو بداية حياة كتبت له من جديد.
يقول «خطورة الطريق كانت بسبب عدم وجود رقابة صارمة على السيارات المسافرة، فلك أن تتخيل أن تقطع مسافة 100 كم دون أن تجد دورية أمنية تراقب متجاوزي السرعة القانونية، ولا نلمس تلك المراقبة إلا إذا اقتربنا من المدن الكبرى، أي قبل الليث بـ40 كم أو أقل، لذلك يجد البعض فرصته في ممارسة هواية السرعة القاتلة».
خدمات إسعافية
رغم خطورة الأمر والإحصاءات التي تسجلها الجهات المعنية للحوادث في الطريق إلا أن المراكز الإسعافية قليلة جدا في الطريق ففي الخط الممتد من جدة إلى الليث لا يتوفر سوى مركز هلال أحمر واحد بعد جدة ومنه لا يصادفك أي مركز آخر، ليكون سائقو السيارات وأصحاب المحلات التجارية هم المنقذ الوحيد لأي طارئ، ويبقى الأمر متروكا لخبرتهم في التعامل مع الحالات المصابة جراء الحوادث.
ويؤكد على ذلك محمد الأحمري من سكان مركز حلي، فهو دائما ما يتفاجأ بحادث في الطريق الممتد من جدة إلى القنفذة، وأصبح من الطبيعي أن يتعامل مع المصابين إلا الحالات الخطرة التي يخشى نقلها كيلا يتحمل مسؤولية قد تسجلها عليه الجهات المعنية.
«إذا خرجت من مدينة جدة فلن تجد أي مركز على طريق الليث - جدة سوى مركز واحد وهو قريب من الشعيبة، وهو الوحيد الذي يغطي مسافة تزيد على 200 كم وبآليات محدودة، وإذا خرجت من الليث تقصد القنفذة فلن تجد سوى مركز واحد أيضا يخدم إلى القنفذة، الأمر الذي يزيد من خطورة الحوادث؛ فبعضها يكون بحاجة لإسعاف عاجل، فلا يجد المصاب سوى منقذين من المواطنين الذين ليست لهم أية دراية بالإسعافات الأولية.
معاناة المستشفيات
إذا كانت معاناة سكان القرى المجاورة لطريق الساحل كبيرة، فمعاناة المستشفيات والمراكز الصحية في المنطقة أكبر بكثير، فهي الأخرى غير مجهزة لاستقبال الحالات الطارئة وغير مستعدة لإنقاذ أرواح ضحايا الطريق، فمستشفى الليث وهو أكثر المستشفيات استقبالا للحالات لا تتوفر فيه سوى غرفة طوارئ تضم 8 أسرة تقريبا، وليس به سوى 5 سيارات إسعاف تخدم الطريق الدولي، كما أنه يعاني من غياب الكثير من التخصصات المتعلقة بالحوادث كالأوعية الدموعية والأعصاب وغيرهما، وليس بمقدورهم سوى إسعافات أولية تقدم للمرضى المصابين وعمليات جراحية بسيطة، ليتم نقل الخطرة إلى مستشفى الملك عبدالعزيز بجدة.
ويؤكد عبدالرحمن الغامدي مدير مستشفى الليث، بأن الحوادث في الطريق تزداد في فترات الإجازة الأسبوعية والإجازات الصيفية حيث يزداد مرتادو الطريق الدولي، وعن الإحصاءات يقول نستقبل تقريبا 150 حادثا في الشهر وأكثر من 1200 حادث في السنة، وأشار إلى أن المستشفى يحتاج لعدد من التخصصات لمواجهة تلك المشكلة والتخفيف من التحويل إلى جدة، كما أننا بحاجة إلى سيارات إسعاف ولا أستطيع أن أحدد احتياجات بعينها ولكن أي دعم آخر سيكون بمثابة تخفيف علينا في مواجهة الحوادث.
مركز واحد لـ«المدني» لا يكفي
بالنسبة لمراكز الدفاع المدني من جدة إلى محافظة الليث لا يتوفر سوى مركز واحد، ولن يصادفك آخر إلا في مركز (المظيلف) التابع لمحافظة القنفذة، ذلك ما زاد من خطورة الحوادث على طريق الساحل المفتقد للخدمات.
أو كما يقول علي عماش أحد سكان المظيلف: كوني من سكان المظيلف فأنا دائما ما أسافر إلى مدينة جدة، وأثناء الطريق أستغرب من عدم توفر مراكز كافية للدفاع المدني رغم وقوع الكثير من الحوادث التي تؤدي إلى احتراق السيارات ووفاة من فيها، فمن جدة إلى الليث مسافة تزيد على 200 كم ولا يوجد أي مركز للهلال الأحمر، فإذا وقع حادث بعد مدينة جدة بمائة كم وشبت النيران فيه فإن الفرق التي ستتحرك لإخماده إما من الليث وهي مسافة تزيد على 100 كيلومتر، أو من جدة وهي نفس المسافة، وفي كلتا الحالتين لن تصل فرق الإنقاذ إلا بعد أن تكون النيران التهمت الأخضر واليابس.
أخفوا الوشوم
لتفادي العقوبات
لجأ بعض رعاة الإبل إلى حيلة لتجنب المساءلة والغرامات، إزاء ترك قطعان الإبل سائبة على جانب الطريق، وتسببها في الحوادث المرورية، وذلك بإحراقها فورا لإخفاء الوشوم التي تدل على ملاكها.
ويرى البعض أن الجمال السائبة سبب رئيسي في وقوع الحوادث على طريق الساحل، ولم تشفع مشاريع التوسعة الأخيرة في الحد من وجود الجمال السائبة على الطريق.
وفي مثل هذه الأيام الربيعية، يفلت الرعاة قطعانهم، ترعى على مقربة من الخط الدولي، مع ازدياد رقعة المساحات الخضراء الذي يعقب هطول الأمطار.
ويحرص الرعاة على أن يستثمروا ذلك جيدا، فيتركون جمالهم ودوابهم ترعى على جانب الطريق، دون أدنى وعي أو معرفة بما قد يسفر عنه ذلك الأمر من كوارث وحوادث قد تودي بحياة الكثيرين، ولا تتوقف القصة هنا، فهناك من الرعاة من يتأسف على موت ناقته إذا اصطدمت بسيارة مسافر دون أن يسأل حتى عن سلامة الإنسان.
لا أثر للوحات الإرشادية
كثير من شكاوى المسافرين وسكان المدن والقرى على جانب الطريق تتلخص في غياب اللوحات الإرشادية في كثير من المواقع، وبعضها لا وجود لها لأكثر من 30 كم، مما يجعل السفر على الطريق، خاصة في الليل، أشبه بمغامرة مجنونة على حافة الموت.
وعلى حد قول الأهالي: أعمال الصيانة المستمرة، خاصة على الجسور العاجزة عن الصمود في وجه السيول، جعلت الطريق أكثر خطورة.