-A +A
نجيب يماني
التاريخ مدرسة للأجيال يتعلّم فيها الأحياء ما ينفعهم فيعملون به، وما يضرّهم فيتجنبوه، كما أنه الجسر الذي يصل ماضي الأمة بحاضرها وبقدر العناية به تستطيع الأمم أن تبني حياتها على أُسس متينة وثابتة، تبني واقعها على ما حوى من أحداث. ولعل تلك الأحداث التي جعلت من منطقتنا ميداناً لصراعات عنيفة مريرة اختفى فيها الأمن والأمان، وكثر فيها القتل والسلب والنهب حتى جاء البطل عبدالعزيز فأقام الدولة الواحدة التي أرست هذا البناء الشامخ بالحب والعدل وشريعة الله، ولعلنا كأمة واحدة انتظمت في عقد هذه الجزيرة يحق لنا أن نملأ أسماع الدنيا ونشنف آذان العالم بما تحقق لنا خلال هذه الحقبة الزمنية من عمرنا. لا بد أن نقف أمام هذه الشخصية الفريدة التي وحّدت هذه الجزيرة واستطاعت أن تجعل من مساحة مليونين ومائتين وأربعين ألف كيلومتر بنياناً واحداً وكياناً متوحّداً بجهد المؤسِّس وإخلاصه وتفانيه مكلّلة بالجهدِ والتعب والعرق. لتبدأ صفحة جديدة من التاريخ السعودي الحديث.

لقد حرصت الأمم على تخليد رموزها في ذاكرة التاريخ بأساليب شتّى، كان النحت من أبرزها، بتطويع مواد خاصة وتحريكها من كتلتها الصامتة، لتتشكل بين يدي النحّاتين أثراً فنياً، يشير إلى مواطن الموهبة، ويدير مُقل الإعجاب نحو البراعة والمهارة الفائقة، ليبقى بذلك تراثاً وتاريخاً قاوم البلى والنسيان، وخلّد الحضور في أضابير الذاكرة الإنسانية في احتفائها بالمجدِ الإنساني الخالد على مرّ الحقب والسنوات.


ولم يكن العرب بمنأى عن حركة فن النحت في صيرورتها العالمية، فقد عرفت الجزيرة العربية التماثيل، وما زالت الكشوفات الأثرية تؤكّد ذلك مع كل معثورة نحتية أثرية تهتدي إليها يد البحث والتنقيب، لتضيف لكراسة حضارتنا جديداً، جديراً بالحفاوة، لما ينطوي عليه من إشارات وامضة تعين على فك رموز التاريخ، واستعراضه في مرآة الحاضر، بخاصة وأننا في عالم اليوم نشهد صراعاً حضارياً، يلعب فيه التراث بكل أنواعه دوراً مهماً، ضد حركة الذوبان والتماهي في ظل ثقافة العولمة الطاغية.

وقد بلغ افتتان الناس قديماً بالمنحوتات مبلغاً ساقهم إلى الضلال باتخاذ بعضها آلهة وأرباباً، في سياق التقرّب زلفى لله، ولهذا حرصت الرسالة المحمّدية على قطع الصلة كلياً بين الناس في أوّل العهد بالإسلام والتماثيل المتخذة أصناماً، فكان التحريم القطعي مرتبطاً بعلة التعبّد، واتخاذ التماثيل آلهة، وهو تحريم يُفهم بهذا الوجه، ولا يتعدّاه لغيره، فرسالة الإسلام في تطلعها نحو ترسيخ وحدانية الله في قلوب الناس، كان من الضروري أن تصرف أنظارهم عن المتعلّقات المادية التي اتخذوها واسطة بينهم وبين الله، وكان من اللازم فك الارتباط بين خلوص العبادة لله والتعلّق بصنم في محراب التحنّث والصلاة.

كل هذا مفهوم بتقديره، ولا بد أن يُنظر إليه من هذا الوجه، وأن لا يُنظر إلى تحريمِ التعاطي مع التماثيل تحريماً مطلقاً حتى بعد انتفاء مسوغات التحريم الأولى، فالجميع اليوم على اتفاق وإدراك أن حالة التعبّد لصنم أو تمثال ليست حاضرة في الواقع، بل إنها ستكون أدعى للسخرية والتندّر. ولم يعُد هناك من يعبد صنماً، أو يدعو إلى عبادة تمثال، ولهذا رأينا كل العالم يحتفي برموزه التاريخية في الميادين العامة، والمتاحف القومية، وهو احتفاء يأخذ بُعداً توثيقياً في غاية الأهمية، مشكّلاً تاريخاً يمر الناس عليه صباح مساء ويصافحونه بعقولهم وأفئدتهم، بما يجعل من التاريخ جزءاً أصيلاً من الحاضر.. إنها القيمة التي نفتقدها اليوم بوقوف مجتمعنا في محطة الحذر من التماثيل، دون أن يعمل فيها الفكر، وينظر في الغاية والمقصد، ويغلّب المصلحة، ليعرف الحاضر أن ما يعيش فيه من أمنٍ وأمان وخير إنّما كان بفضلٍ من الله وتسخير للمؤسس رحمه الله لنعيش النهضة الحالية بكل مضامينها الإنسانية.

الملك المؤسِّس شخصية فذّة مُبدعة عبقرية تركت سيرة باذخة، نتوق لأن نرى لها تمثالاً شاخصاً في مياديننا العامة لنذكّر صنيعه للأجيال القادمة، ونمجّد عمله، ونستحث في ذاكرةِ الأجيال سيرته.

دارة الملك عبدالعزيز تملك الكثير من الصور التاريخية النادرة للملك عبدالعزيز طيّب الله ثراه، وأحداث فترة التأسيس ما أحوجنا إلى إخراجها لتحكي قصص البطولات والتضحيات مجسّمة في مياديننا العامة ومتاحفنا لتعرف الأجيال أن ما هم فيه اليوم لم يأت من فراغ.

* كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com