كراهية عبد الله النفيسي للسيدة أم كلثوم وتباهيه بذلك ليست انطباعا وليست مزاجا، بل هي بالضرورة «دين» يؤمن به، يعطينا ملمحا لطريقة تفكيره وتعامله مع من يختلفون مع تياره المتطرف، ومع أنه ليس بالضرورة أن يحب الجميع أم كلثوم الفنانة العبقرية وأيقونة الغناء العربي، كما بالضرورة أيضا الإعجاب بأي فنان، لكن أن يحمّل النفيسي أم كلثوم مسؤولية انهيار مشروع الإخوان في الخمسينات والستينات وخلافهم السياسي مع الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر فبلا شك أن هناك حقيقة غائبة.
فأم كلثوم في نهاية الأمر ليست سوى مواطنة مصرية لا تصنع الأحداث، كانت تغني في العهد الملكي، وغنت في عهد عبدالناصر والسادات، كما هتفت الجماهير للملك ولناصر ولأنور.
دعونا نعد لجذر العلاقة بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين التي بدأت قبل الانقلاب العسكري بسنوات، وتحديدا منذ تأسيس التنظيم على أيدي الساعاتي حسن البنا العام 1928 كمنظمة سياسية إسلامية، تلك العلاقة بدأت بتغلغل الإخوان داخل الجيش المصري، لكنها تطورت سريعا بعد حرب 1948 وخسارة حرب فلسطين من الجيوش العربية القوية في ذلك الوقت «مصر، سوريا، العراق».
ظهر تنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري بزعامة اللواء محمد نجيب وقيادة الضابط الطموح جمال عبدالناصر، مناوئا للحكم ومحملا الملك فاروق مسؤولية تردي الأوضاع السياسية.
في 23 يوليو 1952 قام التنظيم بانقلاب مسلح، لكن الانقلاب سبقته مجموعة من الحوادث التي أدارها الإخوان وهيأت للضباط الإطاحة بالملك الشرعي للبلاد، أولا إحراق الأوبرا وحريق القاهرة الكبير والاغتيال المعنوي للملك وتشويه سمعته في الشارع المصري وترويج إشاعة أنه عقد صفقة أسلحة فاسدة أدت لهزيمة الجيش المصري أمام إسرائيل العام 1948، ثم تسيير المظاهرات والاحتجاجات، في كواليس المفاوضات بين الضباط الأحرار وتنظيم الإخوان كانت تعقد صفقة تقضي بتمكين الإخوان المسلمين من الحكم عقب الانقلاب أو على الأقل المشاركة فيه، أو هكذا تصور الإخوان.
الجماعة لم تنس تلك الهزيمة التي أصابت مشروعها بسبب تخلي عبدالناصر عنها، وقامت بمحاولة اغتياله في حادثة المنشية الشهيرة، وهي من قام باغتيال السادات لأنه ارتكب نفس الخطأ - حسب وجهة نظرهم - عندما تحالف معهم في السيطرة على الحكم خلال أزمة مراكز القوى وهم بقية الضباط الأحرار في القيادة المصرية.
في خط مواز تولت أم كلثوم أهم قوة ناعمة لمصر الجديدة؛ قيادة الدعاية لمصر وتمكينها في الوجدان العربي، جاء ذلك بلا شك على حساب الدعاية الإخوانية، بالرغم من كل محاولات الإخوان تشويه مصر والتقليل من دورها، ونحن هنا لا نتحدث عن «مصر السياسة» التي بلا شك كان لديها أخطاؤها الفادحة في سوريا واليمن ومع السعودية وبقية الممالك العربية آنذاك، لكن الفن والسينما المصرية كانت تقوم بعمل مبدع تغلغل إلى أعماق الإنسان العربي وكانت أيقونته هي أم كلثوم.
النفيسي عندما يهاجم أم كلثوم هو لا يهاجم السيدة التي تغني، بل يهاجم ثقافة تحب الحياة ونشر الفرح، هو يريد أن ينشر تفكير جهيمان، وبن لادن، والبغدادي، والزرقاوي، وقاسم سليماني، وكل الذين يمجدهم ويدافع عنهم ويعدهم مناضلين من أجل الحرية.
النفيسي يتبنى نفس التفكير «التفجيري» الذي يعتقد أن الحياة تبدأ وتنتهي عندهم فقط، وأن أي شخص كان فنانا أو سكيرا أو سياسيا أو اقتصاديا إذا لم ينخرط في مشروع الإخوان فهو عدو يجب تشويهه وإعدامه ولو معنويا، هذا حصل مع الشاعر السعودي محمد الثبيتي، ومع غازي القصيبي، وغيرهما الكثير، ومع كتاب ومثقفين ومؤرخين وفنانين على طول وعرض العالم العربي.
* كاتب سعودي
massaaed@
فأم كلثوم في نهاية الأمر ليست سوى مواطنة مصرية لا تصنع الأحداث، كانت تغني في العهد الملكي، وغنت في عهد عبدالناصر والسادات، كما هتفت الجماهير للملك ولناصر ولأنور.
دعونا نعد لجذر العلاقة بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين التي بدأت قبل الانقلاب العسكري بسنوات، وتحديدا منذ تأسيس التنظيم على أيدي الساعاتي حسن البنا العام 1928 كمنظمة سياسية إسلامية، تلك العلاقة بدأت بتغلغل الإخوان داخل الجيش المصري، لكنها تطورت سريعا بعد حرب 1948 وخسارة حرب فلسطين من الجيوش العربية القوية في ذلك الوقت «مصر، سوريا، العراق».
ظهر تنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري بزعامة اللواء محمد نجيب وقيادة الضابط الطموح جمال عبدالناصر، مناوئا للحكم ومحملا الملك فاروق مسؤولية تردي الأوضاع السياسية.
في 23 يوليو 1952 قام التنظيم بانقلاب مسلح، لكن الانقلاب سبقته مجموعة من الحوادث التي أدارها الإخوان وهيأت للضباط الإطاحة بالملك الشرعي للبلاد، أولا إحراق الأوبرا وحريق القاهرة الكبير والاغتيال المعنوي للملك وتشويه سمعته في الشارع المصري وترويج إشاعة أنه عقد صفقة أسلحة فاسدة أدت لهزيمة الجيش المصري أمام إسرائيل العام 1948، ثم تسيير المظاهرات والاحتجاجات، في كواليس المفاوضات بين الضباط الأحرار وتنظيم الإخوان كانت تعقد صفقة تقضي بتمكين الإخوان المسلمين من الحكم عقب الانقلاب أو على الأقل المشاركة فيه، أو هكذا تصور الإخوان.
الجماعة لم تنس تلك الهزيمة التي أصابت مشروعها بسبب تخلي عبدالناصر عنها، وقامت بمحاولة اغتياله في حادثة المنشية الشهيرة، وهي من قام باغتيال السادات لأنه ارتكب نفس الخطأ - حسب وجهة نظرهم - عندما تحالف معهم في السيطرة على الحكم خلال أزمة مراكز القوى وهم بقية الضباط الأحرار في القيادة المصرية.
في خط مواز تولت أم كلثوم أهم قوة ناعمة لمصر الجديدة؛ قيادة الدعاية لمصر وتمكينها في الوجدان العربي، جاء ذلك بلا شك على حساب الدعاية الإخوانية، بالرغم من كل محاولات الإخوان تشويه مصر والتقليل من دورها، ونحن هنا لا نتحدث عن «مصر السياسة» التي بلا شك كان لديها أخطاؤها الفادحة في سوريا واليمن ومع السعودية وبقية الممالك العربية آنذاك، لكن الفن والسينما المصرية كانت تقوم بعمل مبدع تغلغل إلى أعماق الإنسان العربي وكانت أيقونته هي أم كلثوم.
النفيسي عندما يهاجم أم كلثوم هو لا يهاجم السيدة التي تغني، بل يهاجم ثقافة تحب الحياة ونشر الفرح، هو يريد أن ينشر تفكير جهيمان، وبن لادن، والبغدادي، والزرقاوي، وقاسم سليماني، وكل الذين يمجدهم ويدافع عنهم ويعدهم مناضلين من أجل الحرية.
النفيسي يتبنى نفس التفكير «التفجيري» الذي يعتقد أن الحياة تبدأ وتنتهي عندهم فقط، وأن أي شخص كان فنانا أو سكيرا أو سياسيا أو اقتصاديا إذا لم ينخرط في مشروع الإخوان فهو عدو يجب تشويهه وإعدامه ولو معنويا، هذا حصل مع الشاعر السعودي محمد الثبيتي، ومع غازي القصيبي، وغيرهما الكثير، ومع كتاب ومثقفين ومؤرخين وفنانين على طول وعرض العالم العربي.
* كاتب سعودي
massaaed@