-A +A
نجيب يماني
الدكتور عبداللطيف آل الشيخ رئيس وفد المملكة إلى مؤتمر الأزهر للتجديد في الفكر الإسلامي أكّد (أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ولكل حال وصلاحيته لهذه الأمور ليست من جموده بل إنما هو التجديد الذي يفهمه العلماء). اشتهر على ألسنة علماء القواعد الفقهية عند استعراضهم لقاعدة (اليقين لا يُزال بالشك) قولهم إن ثلاثة أرباع الفقه تندرج تحت هذه القاعدة وأصلها حديث رسول الله في من وجد من نفسه كأن شيئاً قد خرج من بطنه وهو في الصلاة فينصرف. فحسم رسول الله حالة الشك هذه بقوله: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فلا ينصرف حتّى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً»، وقد كان البعض قبل هذا الحديث يخرج من صلاته لأدنى إحساس من هذا القبيل. من هذه القاعدة استنبط العلماء العديد من القواعد الفقهية الفرعية مثل (الأصل بقاء ما كان عليه حتى يرد ما يغيّره) و(الأصل براءة الذمّة من التكاليف) و(الأصل في الأشياء الإباحة) و(الأصل في الإبضاع التحريم).. إلى غير ذلك من التعقيدات التي ساست لها متعلقات أفعال العباد على مرّ العصور خير سياسة، وكيّفت حياة الناس في معاشهم ومعاملاتهم على ما طرأ عليها من مستجدات لم تكن موجودة في عصر النبوّة ولا في عصر الصحابة، التكييف الفقهي الذي حمل الناس على جادة الشريعة الغرّاء، وفي نفس الوقت رعت في أحكامها مصالحهم وفق ما كانوا يعيشونه من عادات وتقاليد وعقود ومعاملات. وخلاصة ما قِيل في مرامي هذه القاعدة ومعانيها أن ما كان ثابتاً بيقين لا يرتفع بمجرد طروء الشك عليه لأن الأمر اليقيني لا يزيله إلا ما كان مثله في القوة أو أقوى منه. ولا فرق أن يكون اليقين مقتضياً لحظر أو مقتضياً للإباحة. ولقد توسعت رقعة الديار الإسلامية ودخلت في الإسلام شعوب متباينة في طرق معاشهم وعاداتهم وتقاليدهم فكان هذا الحال أشبه بالتحدّي لقوة هذا الدين في حكم هذه الأمم على اختلاف مشاربهم وتباين أحوالهم ومعاملاتهم ومصالحهم، فهو دين قوي يصلح لكل زمان ومكان ولم تدخل على الفقهاء آنذاك أي مستجدات كما هو اليوم، ولكنهم واجهوا ما هو أكبر وأكثر من مخترعاتنا هذه إذا احتُسب عامل الزمن وظروف البيئة والمعيشة، وقد جابهوا ذلك السيل الجارف من المستجدات بما ركنوا إليه من أصول هذا الدين الحنيف وقواعده الأصوليّة والفقهية العامة وضوابطها. ولم ينقل عنهم إلا الحرص الشديد والتحرّج المفرط في إصدار التحريم والتحليل، حتى اشتهر عن الإمام أحمد قوله (لا يعجبني) في ما ثبت لديه حرمته تأدباً مع المشرّع المحلّل والمحرّم سبحانه وتعالى.. كما نُقِلَ عن أبي حنيفة قوله (لو أُعطيت الدنيا بحذافيرها لا أفتي بحرمتها). وقصّة مالك مع الذين جاءوا إليه بأربعين مسألة يطلبون منه الإجابة عليها فأجابهم عن نزر يسير منها والمتبقي قال فيه (لا أدري!). إنّ الحرمة والكراهة (حكمان شرعيّان ولا بد لهما من دليل بل القول بالإباحة هي الأصل.. وقد توقف النبي عليه الصلاة والسلام في (تحريم الخمر) حتى نزل عليه النص القطعي بتحريمها. كما عافت نفسه أكل لحم الضب ومع ذلك لم يحرّمه. وقد فصّل الله لنا ما حرم علينا، فلا يحرم إلا ما حرّمه الله بالنص. ولقد مرّ علينا زمن (غفوة) كان الحرام هو متسيّد الموقف، فالحرام ما حرّمه الله بخصوصه وما من عام إلاّ وخُصّص كما يقول الشاطبي في الموافقات. إنّ للتحريم منهجاً إلهياً، وله طرقه وأساليبه، ثم ليس أجمل ولا أكمل من قول الشافعي (إن ما يثبت بيقين لا يرتفع إلاّ بيقين)، ولقد ذمّ الله سبحانه وتعالى المشركين لتحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وقولهم (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا) وقولهم (وأنعام حرمت ظهورها)، ونهى عباده أشدّ نهي وحرّم عليهم أشدّ تحريم أن يتقوّلوا عليه بالتحليل والتحريم من عند أنفسهم، (إنّ الدليل إذا تطرّق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال)، فهل يرفع اليقين دليل مشكوك فيه بل هو ساقط بتطرّق الاحتمال إليه مثل قولهم إنّ (الغناء) حرام أو أنّ التعامل مع البنوك حرام، ارتكزوا إلى قوله تعالى {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وجعلوا منها ملاذاً لكل من أراد أن يحرّم شيئاً من عند نفسه بالهوى والتشهّي فيُدخِل ما أراد في قائمة (الإثم)، ثم انصرفوا إلى قائمة (الخبائث) في قوله تعالى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}، فهذه القائمة أوسع من الأولى وتكتنفها مرونة أكبر وبإمكانها أن تسع ما لا يُعَد ولا يُحصى من المحرّمات التي تصوغها أهواء الناس وطباعُهم. فما أحوجنا إلى تنقية تراثنا مما علق به من أهواء الناس وأمزجتهم.

* كاتب سعودي


nyamanie@hotmail.com