من يتابع الحالة السياسية التركية الغريبة والمليئة بالثقوب والتناقضات الفادحة يفهم تماماً أن أردوغان لم يستطع أن ينسى مهنته كبائع لبن في شركة أوركل التركية، ولا كيف كانت مهمته وأعماله اليومية تقضي بعقد الصفقات مع الطباخين والجزارين وأصحاب المطاعم والمطابخ وربات البيوت.
لقد قضى أكثر من ثلاثين عاماً من عمره بائعاً جائلاً في بلدات وقرى تركيا يبيع اللبن المخثر، إلى أن جاء اليوم الذي قفز فيه من محلات أولكر إلى دهاليز حزب نجم الدين أربكان ليتسلق سريعاً المناصب الحزبية، ثم ينقلب على معلمه أربكان ليؤسس حزبه الخاص، وأخيراً ينقلب على الدولة التركية كاملة مؤسساً دولته الخاصة، كل ذلك التراكم السياسي لم يغير الشخصية التي بنيت مبكراً في معامل الألبان ومسوقي منتجاته.
أردوغان أقرب ما يكون إلى أولئك البائعين الهائمين بين بيوت الفقراء الذين يحاولون إقناع العجائز بمكنات الخياطة والإبر الصدئة، معتمدين على ضعف بصرهن وسالبين مدخراتهن.
لم تغير السياسة من أساليب أردوغان كثيراً، بل استمر يستخدم عقد الصفقات والانسحاب منها ووضع الكمائن داخلها معتقداً أنها طريقه الوحيد للنجاح.
في منتصف الألفية أطلق أردوغان سياسة تصفير المشاكل مع جيرانه، وعقد ما يسمى بحلف الغاز وسعى لإتمام خط الغاز الذي تبناه مع الدوحة، ممتداً من قطر إلى تركيا عبر السعودية وسوريا، فلبس قفازاً ناعماً وادعى بناء علاقات جيدة مع الدولتين، وخلال ذلك ادعى الحياد في الحرب العراقية الأمريكية، وروّج أنه منع الأمريكان من استخدام قاعدة انجرليك خلال الغزو، بينما الحقيقة كانت عكس ذلك تماماً، وتحول إلى أكبر مقاول مع الليبيين وصار صديقاً مقرباً للقذافي، وزار إسرائيل وتملقهم وغشي قبر هرتزل مؤسس الدولة الصهيونية ووضع إكليلا من الورد على ضريحه، وتجنب تأييد القضية الفلسطينية، كان وقتها يعقد الصفقات مع يهود العالم، ومع الغرب المؤيد لإسرائيل.
تلك كانت صفقات ما قبل الربيع العربي، فبعد العام 2010 انقلب على السوريين والسعوديين والمصريين والليبيين والبحرينيين، وفي بداية الأزمة السورية هدد الرئيس السوري بشار، ثم احتضن المليشيات الإرهابية، ثم هدد الروس والإيرانيين، ثم تحالف مع الروس والإيرانيين دون مسوغ.
لقد كان أردوغان ينتقل من صفقة إلى صفقة، طاوياً خلفه كل تبعاتها السياسية ومن حضن سياسي إلى حضن سياسي كما يتنفس دون أن يتأثر أو يؤنبه ضميره.
ولو راجعنا الآثار والتبعات الإنسانية التي تكبدتها شعوب المنطقة بسبب المزاج السياسي الأردوغاني لوجدناه مكلفاً جداً، فإذا كان أردوغان مرتاحاً للأوربيين أوقف أنبوب اللاجئين، وإذا انزعج فتحه وأرسل عليهم مئات الآلاف من الأبرياء الذين هجرهم بالأساس من سوريا بسبب إضرامه للاحتجاجات وتشجيعه لها، وهو ما يحصل اليوم أيضاً في ليبيا، فملايين الليبيين يعيشون تحت وطأة دولة فاشلة، بسبب انقلاب أردوغان على صديقه القذافي، وإرساله عشرات آلاف الإرهابيين ودعم المليشيات بأطنان الأسلحة.
هناك مبدأ في السياسة اسمه المكيافيلية، لقد تفوق أردوغان حتى على ميكافيلي نفسه، وهناك ذكاء في السياسة ومصالح وعلاقات وتحالفات، لكن ما يفعله أردوغان شيء غريب وجديد، يعطي انطباعاً واحداً أن من يحكم تركيا هو شخص مضطرب وغير مؤتمن على أمته، صحيح أن السياسة هي فن الممكن، لكن أن تكون المكاسب الشخصية والأحلام والأوهام هي من تقود الطموح، وتخلف وراءها ملايين القتلى والمشردين والعلاقات الفاشلة، فهذه هي أخلاق قطاعي الطرق ومسوقي البضائع الفاسدة، لا قادة الدول.
* كاتب سعودي
massaaed@
لقد قضى أكثر من ثلاثين عاماً من عمره بائعاً جائلاً في بلدات وقرى تركيا يبيع اللبن المخثر، إلى أن جاء اليوم الذي قفز فيه من محلات أولكر إلى دهاليز حزب نجم الدين أربكان ليتسلق سريعاً المناصب الحزبية، ثم ينقلب على معلمه أربكان ليؤسس حزبه الخاص، وأخيراً ينقلب على الدولة التركية كاملة مؤسساً دولته الخاصة، كل ذلك التراكم السياسي لم يغير الشخصية التي بنيت مبكراً في معامل الألبان ومسوقي منتجاته.
أردوغان أقرب ما يكون إلى أولئك البائعين الهائمين بين بيوت الفقراء الذين يحاولون إقناع العجائز بمكنات الخياطة والإبر الصدئة، معتمدين على ضعف بصرهن وسالبين مدخراتهن.
لم تغير السياسة من أساليب أردوغان كثيراً، بل استمر يستخدم عقد الصفقات والانسحاب منها ووضع الكمائن داخلها معتقداً أنها طريقه الوحيد للنجاح.
في منتصف الألفية أطلق أردوغان سياسة تصفير المشاكل مع جيرانه، وعقد ما يسمى بحلف الغاز وسعى لإتمام خط الغاز الذي تبناه مع الدوحة، ممتداً من قطر إلى تركيا عبر السعودية وسوريا، فلبس قفازاً ناعماً وادعى بناء علاقات جيدة مع الدولتين، وخلال ذلك ادعى الحياد في الحرب العراقية الأمريكية، وروّج أنه منع الأمريكان من استخدام قاعدة انجرليك خلال الغزو، بينما الحقيقة كانت عكس ذلك تماماً، وتحول إلى أكبر مقاول مع الليبيين وصار صديقاً مقرباً للقذافي، وزار إسرائيل وتملقهم وغشي قبر هرتزل مؤسس الدولة الصهيونية ووضع إكليلا من الورد على ضريحه، وتجنب تأييد القضية الفلسطينية، كان وقتها يعقد الصفقات مع يهود العالم، ومع الغرب المؤيد لإسرائيل.
تلك كانت صفقات ما قبل الربيع العربي، فبعد العام 2010 انقلب على السوريين والسعوديين والمصريين والليبيين والبحرينيين، وفي بداية الأزمة السورية هدد الرئيس السوري بشار، ثم احتضن المليشيات الإرهابية، ثم هدد الروس والإيرانيين، ثم تحالف مع الروس والإيرانيين دون مسوغ.
لقد كان أردوغان ينتقل من صفقة إلى صفقة، طاوياً خلفه كل تبعاتها السياسية ومن حضن سياسي إلى حضن سياسي كما يتنفس دون أن يتأثر أو يؤنبه ضميره.
ولو راجعنا الآثار والتبعات الإنسانية التي تكبدتها شعوب المنطقة بسبب المزاج السياسي الأردوغاني لوجدناه مكلفاً جداً، فإذا كان أردوغان مرتاحاً للأوربيين أوقف أنبوب اللاجئين، وإذا انزعج فتحه وأرسل عليهم مئات الآلاف من الأبرياء الذين هجرهم بالأساس من سوريا بسبب إضرامه للاحتجاجات وتشجيعه لها، وهو ما يحصل اليوم أيضاً في ليبيا، فملايين الليبيين يعيشون تحت وطأة دولة فاشلة، بسبب انقلاب أردوغان على صديقه القذافي، وإرساله عشرات آلاف الإرهابيين ودعم المليشيات بأطنان الأسلحة.
هناك مبدأ في السياسة اسمه المكيافيلية، لقد تفوق أردوغان حتى على ميكافيلي نفسه، وهناك ذكاء في السياسة ومصالح وعلاقات وتحالفات، لكن ما يفعله أردوغان شيء غريب وجديد، يعطي انطباعاً واحداً أن من يحكم تركيا هو شخص مضطرب وغير مؤتمن على أمته، صحيح أن السياسة هي فن الممكن، لكن أن تكون المكاسب الشخصية والأحلام والأوهام هي من تقود الطموح، وتخلف وراءها ملايين القتلى والمشردين والعلاقات الفاشلة، فهذه هي أخلاق قطاعي الطرق ومسوقي البضائع الفاسدة، لا قادة الدول.
* كاتب سعودي
massaaed@