يقول أوليفر ويندل هولمز (قاضي المحكمة العليا الأمريكية الفيلسوف القانوني الشهير للمدرسة الوضعية المتوفى 1935م): «رجل القانون المتمحور حول النصوص القانونية وقواعدها قد يكون هو رجل القانون للحاضر، لكن رجل القانون للمستقبل هو المتمكن من الإحصاء والاقتصاد»، وهولمز هو القائل «حياة القانون ليست منطقاً ولكن تجربة» –وسآتي لشرحه.
منذ بداية الستينات الميلادية، وهو الوقت الذي بدأ فيه التشكل الجديد للتخصص الفريد (القانون والاقتصاد)، بدأت هناك تطورات في السؤال القانوني، في السابق حيث كانت علاقة القانون واستعماله للسؤال الاقتصادي محصورة في قوانين محدودة مثل قانون مكافحة الاحتكار، والضرائب وبعض القضايا القانونية التي تحتاج الاقتصاد مثل تحديد الأضرار النقدية؛ لذا كان القانون يحتاج الاقتصاد للإجابة على مثل هذه الأسئلة: «ما هي حصة المدعى عليه في السوق؟»، «هل وضع أسعار محددة للتأمين على السيارات تقلل من كثرتها وتوافرها؟»، «من يتحمل عبء ضريبة أرباح رأس المال؟» هذا في السابق.
لكن في مرحلة لاحقة تطور علم القانون والاقتصاد بالتوسع للدخول مجالات عديدة مثل قوانين الملكية والعقار، والمسؤولية التقصيرية، والعقود، والقانون الجنائي، والمرافعات، والأدلة الجزائية، بل حتى القانون الدستوري، وأصبح استخدام الاقتصاد في الطرح القانوني يضع العديد والعديد من الأسئلة، على سبيل المثال: «هل التخصيص والسماح بالملكيات الخاصة تشجع على رفع كفاءة الإنتاج والخدمات وأسعارها في بعض المجالات؟»، «هل وضع تعويضات عند خرق الأحكام التعاقدية تسبب إلى رفع كفاءة الاعتماد على تحقيق شروط التعاقد؟»، «هل تتخذ الشركات احتياطات أكثر من اللازم أو قليلة جداً عندما يحمّلها القانون مسؤولية صارمة عن الإصابات التي تحدث للمستهلكين؟»، و«هل العقوبات الصارمة تردع الجريمة العنيفة؟».
لقد غيّر الاقتصاد طبيعة دراسة القانون وبحثه، بل وغير الفهم المشترك للقواعد والمرجعيات القانونية، وحتى طريقة ممارسة القانون.
وهذا أدى بدوره إلى دخول كثير من الاقتصاديين إلى التدريس في كليات القانون، وأصبح دخول التحليل الاقتصادي في الموضوع القانوني، منها دخول في قانون الشركات الأمريكي حيث أصبح تدريس هذه المادة من زاوية اقتصادية قانونية، وبحلول أواخر التسعينيات، كانت هناك منظمات مهنية في القانون والاقتصاد في آسيا وأوروبا وكندا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأستراليا وأماكن أخرى.
بينما لم يصلنا، ونحن في العام 2020، هذا الاهتمام بالتحليل الاقتصادي في الموضوع القانوني، بل ما زال القانوني السعودي حتى خريجو الولايات المتحدة الأمريكية الذين في الغالب يندمجون في النظام التقليدي بدون مطالبة تجديدية للواقع، يصبح أقصى اجتهاده هو مراجعة نظامية لما هو كائن، ومراجعة صياغية، وهذا تجده في أعلى المؤسسات القانونية التي يقتصر عملها على هذه الحدود، بدون وجود تنوع في النظر والتحليل من عدة حقول معرفية أخرى اقتصادية، أو صحية، أو اجتماعية إلخ.
منطلقات هذا التوجّه الجديد علينا القديم نوعاً ما دولياً يبدأ من مدرسة القانون الوضعي، حيث أغلب مدارس القانون تنحو نحوه، حيث إن القانون -كما قال هولمز- تجربة وليس منطقاً، والمقصود بالمنطق هو الحس العقلي المشترك في الطبيعة البشرية؛ لذا القانون وضع وليس طبيعة، فهو تواضع بين البشر يراعي جوانب الحياة الاجتماعية بكل روافدها وأهمها الاقتصادية، وليس طبيعة محدود بمنطق ينسب للطبيعة لا يمكن تجاوزه، أو مجرد اكتشافه يجعله قانوناً كافياً لاتباعه، فالقانون تجربة بمعنى أنه متغير حسب مصالح متجددة ومنطلقات نظر متعددة، وحسب ما تواضع عليه الجهات التشريعية.
الأمثلة عندنا كثيرة، عند صياغة قانون الملكية الفكرية، تجد أن البعض ينظر لزاوية ولا ينظر لزوايا أخرى، فمثلاً اقتراح نظام للملكية الفكرية في دولة متقدمة صناعية، مختلف تماماً عن صياغته عن دولة نامية لا زالت تعتمد على التكنولجيا المستوردة، ومعروف أن هذا القانون حدوده الدولية محدودة، ومعظمه يتركز على تفصيل قانون لكل بلد بما يناسبه، وكذلك تجد قانون المنافسة ومكافحة الاحتكار.
مفاهيم اقتصادية تدخل المجال القانوني فتجدها تتحرف لمشكلة ضيق الإطار القانوني، مثلاً مفهوم «التخصيص» من أكثر المفاهيم التباساً في السعودية بسبب القانونين فقط! وذلك لأنهم لا يعرفون في أشكال المؤسسات حسب القانون الحالي إلا المؤسسة الحكومية وأنظمة مشترياتها، وأحكام الجهات الحكومية من توظيف ورقابة وغيرها، والشكل الثاني هو الشركات التجارية من خلال نظام الشركات، بغض النظر عن الملكيات!
والسبب في ذلك ليس لعدم وجود تعريف علمي اقتصادي واضح للتخصيص فحسب، بل أيضاً لعدم وضوح مفهوم تعريف «القطاع الخاص»، وما معنى الملكية الخاصة؟ بل ما هي فلسفة الاقتصاد في الملكية الخاصة؟ هل الموضوع شكلي في شكل المؤسسة من حيث هل هي حكومية أو شركة تجارية؟ أو هي ملكية خاصة تدعو للمنافسة والابتكار أكثر من كونها ملكية عامة للدولة؟! لذا تجد القانونيين وفق هذه النظرة يرون أن الشركات المملوكة بالكامل للدولة تخصيص، حتى لو لم يكن فيه ريال واحد تعود ملكيته للقطاع الخاص أي ملكية الأفراد في النهاية.
مسائل أخرى كثيرة ترجع لهذا الحقل منها مثلاً مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه وفرض التأمين على المؤسسات وأثره على رفع الجودة والكفاءة، مسائل تمكين المرأة وأثرها على الاقتصاد وجودة الحياة، مسائل العقوبات وأثرها المادي، خلق وابتكار قوانين جديدة اقتصادية على المخالفين بدل السجن، تطوير نظام الإفلاس للأفراد، وغيرها من المسائل الاقتصادية القانونية.
كل هذه الأمور منصوص على اعتبارها في الأنظمة والقرارات لكن المشكلة ليست في ذكرها، حيث إنها مذكورة ومراعاة بشكل متقدم جداً، بل المشكلة في التطبيق وضعف البُنية القانونية للاستجابة لمثل هذه المتطلبات، فأي دراسة لأي مشروع نظام أو مشروع عمل لا بد أن يتضمن لدراسة الآثار الاجتماعية الاقتصادية (socio-economic)، قبل النظر في النموذج التالي لتطبيق المشروع والانتقال لمرحلة تحقيق «على أساس القيمة» (Value-Based)، ومرحلة القيمة مقابل المال في مشاريع الأعمال (Value For Money) لتحديد النموذج الأمثل لتحقيق أفضل كفاءة وجودة وعائد من المشروع للمصلحة العامة.
أعتقد الواجب الآن فتح دورات علمية مكثفة للقانونيين في دراسة الاقتصاد والمالية لتأسيس فهم علمي عام لأهمية علاقة القانون بالاقتصاد، وأنه لا يمكن أن يتغاضى القانوني عن هذه الاعتبارات ويصبح دوره مجرد صياغي لغوي يراجع الموضوع بما يتوافق مع ما هو كائن فقط!.
منذ بداية الستينات الميلادية، وهو الوقت الذي بدأ فيه التشكل الجديد للتخصص الفريد (القانون والاقتصاد)، بدأت هناك تطورات في السؤال القانوني، في السابق حيث كانت علاقة القانون واستعماله للسؤال الاقتصادي محصورة في قوانين محدودة مثل قانون مكافحة الاحتكار، والضرائب وبعض القضايا القانونية التي تحتاج الاقتصاد مثل تحديد الأضرار النقدية؛ لذا كان القانون يحتاج الاقتصاد للإجابة على مثل هذه الأسئلة: «ما هي حصة المدعى عليه في السوق؟»، «هل وضع أسعار محددة للتأمين على السيارات تقلل من كثرتها وتوافرها؟»، «من يتحمل عبء ضريبة أرباح رأس المال؟» هذا في السابق.
لكن في مرحلة لاحقة تطور علم القانون والاقتصاد بالتوسع للدخول مجالات عديدة مثل قوانين الملكية والعقار، والمسؤولية التقصيرية، والعقود، والقانون الجنائي، والمرافعات، والأدلة الجزائية، بل حتى القانون الدستوري، وأصبح استخدام الاقتصاد في الطرح القانوني يضع العديد والعديد من الأسئلة، على سبيل المثال: «هل التخصيص والسماح بالملكيات الخاصة تشجع على رفع كفاءة الإنتاج والخدمات وأسعارها في بعض المجالات؟»، «هل وضع تعويضات عند خرق الأحكام التعاقدية تسبب إلى رفع كفاءة الاعتماد على تحقيق شروط التعاقد؟»، «هل تتخذ الشركات احتياطات أكثر من اللازم أو قليلة جداً عندما يحمّلها القانون مسؤولية صارمة عن الإصابات التي تحدث للمستهلكين؟»، و«هل العقوبات الصارمة تردع الجريمة العنيفة؟».
لقد غيّر الاقتصاد طبيعة دراسة القانون وبحثه، بل وغير الفهم المشترك للقواعد والمرجعيات القانونية، وحتى طريقة ممارسة القانون.
وهذا أدى بدوره إلى دخول كثير من الاقتصاديين إلى التدريس في كليات القانون، وأصبح دخول التحليل الاقتصادي في الموضوع القانوني، منها دخول في قانون الشركات الأمريكي حيث أصبح تدريس هذه المادة من زاوية اقتصادية قانونية، وبحلول أواخر التسعينيات، كانت هناك منظمات مهنية في القانون والاقتصاد في آسيا وأوروبا وكندا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأستراليا وأماكن أخرى.
بينما لم يصلنا، ونحن في العام 2020، هذا الاهتمام بالتحليل الاقتصادي في الموضوع القانوني، بل ما زال القانوني السعودي حتى خريجو الولايات المتحدة الأمريكية الذين في الغالب يندمجون في النظام التقليدي بدون مطالبة تجديدية للواقع، يصبح أقصى اجتهاده هو مراجعة نظامية لما هو كائن، ومراجعة صياغية، وهذا تجده في أعلى المؤسسات القانونية التي يقتصر عملها على هذه الحدود، بدون وجود تنوع في النظر والتحليل من عدة حقول معرفية أخرى اقتصادية، أو صحية، أو اجتماعية إلخ.
منطلقات هذا التوجّه الجديد علينا القديم نوعاً ما دولياً يبدأ من مدرسة القانون الوضعي، حيث أغلب مدارس القانون تنحو نحوه، حيث إن القانون -كما قال هولمز- تجربة وليس منطقاً، والمقصود بالمنطق هو الحس العقلي المشترك في الطبيعة البشرية؛ لذا القانون وضع وليس طبيعة، فهو تواضع بين البشر يراعي جوانب الحياة الاجتماعية بكل روافدها وأهمها الاقتصادية، وليس طبيعة محدود بمنطق ينسب للطبيعة لا يمكن تجاوزه، أو مجرد اكتشافه يجعله قانوناً كافياً لاتباعه، فالقانون تجربة بمعنى أنه متغير حسب مصالح متجددة ومنطلقات نظر متعددة، وحسب ما تواضع عليه الجهات التشريعية.
الأمثلة عندنا كثيرة، عند صياغة قانون الملكية الفكرية، تجد أن البعض ينظر لزاوية ولا ينظر لزوايا أخرى، فمثلاً اقتراح نظام للملكية الفكرية في دولة متقدمة صناعية، مختلف تماماً عن صياغته عن دولة نامية لا زالت تعتمد على التكنولجيا المستوردة، ومعروف أن هذا القانون حدوده الدولية محدودة، ومعظمه يتركز على تفصيل قانون لكل بلد بما يناسبه، وكذلك تجد قانون المنافسة ومكافحة الاحتكار.
مفاهيم اقتصادية تدخل المجال القانوني فتجدها تتحرف لمشكلة ضيق الإطار القانوني، مثلاً مفهوم «التخصيص» من أكثر المفاهيم التباساً في السعودية بسبب القانونين فقط! وذلك لأنهم لا يعرفون في أشكال المؤسسات حسب القانون الحالي إلا المؤسسة الحكومية وأنظمة مشترياتها، وأحكام الجهات الحكومية من توظيف ورقابة وغيرها، والشكل الثاني هو الشركات التجارية من خلال نظام الشركات، بغض النظر عن الملكيات!
والسبب في ذلك ليس لعدم وجود تعريف علمي اقتصادي واضح للتخصيص فحسب، بل أيضاً لعدم وضوح مفهوم تعريف «القطاع الخاص»، وما معنى الملكية الخاصة؟ بل ما هي فلسفة الاقتصاد في الملكية الخاصة؟ هل الموضوع شكلي في شكل المؤسسة من حيث هل هي حكومية أو شركة تجارية؟ أو هي ملكية خاصة تدعو للمنافسة والابتكار أكثر من كونها ملكية عامة للدولة؟! لذا تجد القانونيين وفق هذه النظرة يرون أن الشركات المملوكة بالكامل للدولة تخصيص، حتى لو لم يكن فيه ريال واحد تعود ملكيته للقطاع الخاص أي ملكية الأفراد في النهاية.
مسائل أخرى كثيرة ترجع لهذا الحقل منها مثلاً مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه وفرض التأمين على المؤسسات وأثره على رفع الجودة والكفاءة، مسائل تمكين المرأة وأثرها على الاقتصاد وجودة الحياة، مسائل العقوبات وأثرها المادي، خلق وابتكار قوانين جديدة اقتصادية على المخالفين بدل السجن، تطوير نظام الإفلاس للأفراد، وغيرها من المسائل الاقتصادية القانونية.
كل هذه الأمور منصوص على اعتبارها في الأنظمة والقرارات لكن المشكلة ليست في ذكرها، حيث إنها مذكورة ومراعاة بشكل متقدم جداً، بل المشكلة في التطبيق وضعف البُنية القانونية للاستجابة لمثل هذه المتطلبات، فأي دراسة لأي مشروع نظام أو مشروع عمل لا بد أن يتضمن لدراسة الآثار الاجتماعية الاقتصادية (socio-economic)، قبل النظر في النموذج التالي لتطبيق المشروع والانتقال لمرحلة تحقيق «على أساس القيمة» (Value-Based)، ومرحلة القيمة مقابل المال في مشاريع الأعمال (Value For Money) لتحديد النموذج الأمثل لتحقيق أفضل كفاءة وجودة وعائد من المشروع للمصلحة العامة.
أعتقد الواجب الآن فتح دورات علمية مكثفة للقانونيين في دراسة الاقتصاد والمالية لتأسيس فهم علمي عام لأهمية علاقة القانون بالاقتصاد، وأنه لا يمكن أن يتغاضى القانوني عن هذه الاعتبارات ويصبح دوره مجرد صياغي لغوي يراجع الموضوع بما يتوافق مع ما هو كائن فقط!.