في العام 1948 م – 1368 هـ يكون قد غادر آخر يهودي مدينة نجران السعودية، بالتأكيد لا توجد تفاصيل مكتوبة ومحددة غير ما يتداوله كبار السن من السكان المحليين عن قصص وحكايات جيرانهم اليهود الذين عاشوا معهم جنباً إلى جنب من دون حوادث تذكر.
كان المجتمع اليهودي في نجران كما غيره من المجتمعات المحلية في الجزيرة العربية يعيش أنماط حياته منسجماً مع محيطه المسلم، يتقاطعون في الهموم المشتركة ولكل منهم قصصه وهمومه وأحلامه الخاصة.
اشتهر النجرانيون عامة بالزراعة والتجارة فقد كانت نجران على مر التاريخ ملتقى للحضارات الإنسانية وحاضنة للأديان وشاهدة على التسامح، فيما برع يهود نجران بالصياغة وتجارة الذهب والفضة وتقاسموا مع الأهالي الأسواق والأحياء والطرقات.
يتناقل بعض كبار السن في مدينة نجران جنوب السعودية قصة اليهودي «هارون» الذي عاش في فترة ما قبل الارتحال، الذي عرف بكونه «مصرفاً محلياً» تودع عنده الأموال والأمانات من الجميع سكاناً ومغتربين، حكايته كانت دائماً ما يرفدونها بقصص عن أمانته وحرصه الشديد على حقوق الآخرين.
في تلك الأيام من عمر السعودية الناشئة كانت نجران محطة يتوجه إليها الباحثون عن لقمة العيش بعدما دشنت فيها بعض الأعمال العسكرية والمدنية، كان الآباء وكبار السن في القرى والبوادي المحيطة بنجران يوصون أبناءهم الذاهبين للعمل -لأول مرة- بالسؤال عن اليهودي «هارون» صاحب دكان للصياغة في طرف السوق الشعبية، فهو تاجر معروف ويمكن الوصول إليه بسهولة، وحسب العادات القبلية وبعد السلام ممن ورائهم يتفقون معه على وضع مدخراتهم من رواتبهم ليحفظها لهم خوفاً من السرقة أو الضياع، ففي تلك الحقبة كانت الحياة بسيطة جداً ولا توجد مصارف محلية ولا مكان يأمن العاملون فيه على أموالهم.
لا يعرف تحديداً متى استوطن اليهود في نجران، إلا أن بعض المصادر وصفتهم على النحو التالي: يهود نجران هم اليهود الذين تواجدوا في منطقة نجران جنوب شبه الجزيرة العربية -قبل البعثة النبوية- وعملوا في التجارة بالأسواق في صياغة الذهب وحرفة صناعة الخناجر والسيوف وغيرها، ينتسبون إلى «بني الديان» وهي تسمية عبرية لقبيلة تنتسب إلى بني الأزد قطنت نجران واعتنقت اليهودية.
قدرت أعدادهم في العام 1932م في مصادر بسبعة آلاف، حتى وصلوا سنة 1948م الى حوالى 260 شخصاً، كان يعمل معظمهم في الحرف والمهن اليدوية، كما اشتغل القليل منهم في الرعي والزراعة.
سكن «يهود نجران» في أحياء عديدة في نجران أهمها «القابل، رجلاء، الحضن، مراطة، الجربة، بير دار، وسط صاغر، الحوية، دحضة، القلح، العوكلة»، وبقوا «كذميين» لا يؤذون ولا يتحرش بهم، بل جزء من النسيج الاجتماعي بكل تفاصيله وتنوعه وثرائه، وكما كان هارون يعمل في متجره في سوق نجران متوارثاً صنعته صائغاً للذهب، كان بقية أبناء عمومته يتقنون صناعة «الجنابي والسيوف» وتجارة الذهب والفضة.
تقول الروايات الشفوية أيضاً إنه وبعد ازدياد توتر العلاقات «العربية - الإسرائيلية» والضغوط الشعبية والإعلامية على الحكومات العربية والتحريض ضد الجاليات اليهودية، وجد يهود نجران أنفسهم مثل كل يهود العالم العربي في موقف صعب بين ضغط إعلام اليسار والقومجية والمتطرفين وبين المضي قدماً في حياتهم أو الانسحاب بهدوء والهجرة إلى أماكن أخرى.
وكما حصل في العراق ومصر وسوريا واليمن والبحرين والمغرب وبقية الدول العربية، قرر يهود نجران الخروج ولكن هذه المرة طواعية، إذ قدم كبيرهم إلى أمير نجران واستأذنه في المغادرة مع أهاليهم إلى صعدة في اليمن حيث بقية أبناء عمومتهم، مؤكداً -للأمير- أنهم لم يتعرضوا للأذى أو المضايقة لا من السكان المحليين ولا من السلطات وأنهم قرروا ذلك عن قناعة حتى لا يحرجوا الدولة التي يقطنون بها منذ مئات السنين، أمير نجران من ناحيته ترك القرار لهم ومكنهم من أخذ أموالهم وممتلكاتهم معهم دون أن يمسها أحد.
بالفعل خرج هارون ومعه كل يهود نجران باتجاه صعدة في اليمن حاملين معهم أموالهم وممتلكاتهم دون أن يمسها أحد، كثير من أولئك المهاجرين ذهبوا فيما بعد إلى فرنسا وبريطانيا، وجزء صغير منهم بقي في صعدة ومن ثم غادر الى إسرائيل، وهنا تنتهي قصة تعايش إنسانية شهدها جنوب السعودية.
* كاتب سعودي
massaaed@
كان المجتمع اليهودي في نجران كما غيره من المجتمعات المحلية في الجزيرة العربية يعيش أنماط حياته منسجماً مع محيطه المسلم، يتقاطعون في الهموم المشتركة ولكل منهم قصصه وهمومه وأحلامه الخاصة.
اشتهر النجرانيون عامة بالزراعة والتجارة فقد كانت نجران على مر التاريخ ملتقى للحضارات الإنسانية وحاضنة للأديان وشاهدة على التسامح، فيما برع يهود نجران بالصياغة وتجارة الذهب والفضة وتقاسموا مع الأهالي الأسواق والأحياء والطرقات.
يتناقل بعض كبار السن في مدينة نجران جنوب السعودية قصة اليهودي «هارون» الذي عاش في فترة ما قبل الارتحال، الذي عرف بكونه «مصرفاً محلياً» تودع عنده الأموال والأمانات من الجميع سكاناً ومغتربين، حكايته كانت دائماً ما يرفدونها بقصص عن أمانته وحرصه الشديد على حقوق الآخرين.
في تلك الأيام من عمر السعودية الناشئة كانت نجران محطة يتوجه إليها الباحثون عن لقمة العيش بعدما دشنت فيها بعض الأعمال العسكرية والمدنية، كان الآباء وكبار السن في القرى والبوادي المحيطة بنجران يوصون أبناءهم الذاهبين للعمل -لأول مرة- بالسؤال عن اليهودي «هارون» صاحب دكان للصياغة في طرف السوق الشعبية، فهو تاجر معروف ويمكن الوصول إليه بسهولة، وحسب العادات القبلية وبعد السلام ممن ورائهم يتفقون معه على وضع مدخراتهم من رواتبهم ليحفظها لهم خوفاً من السرقة أو الضياع، ففي تلك الحقبة كانت الحياة بسيطة جداً ولا توجد مصارف محلية ولا مكان يأمن العاملون فيه على أموالهم.
لا يعرف تحديداً متى استوطن اليهود في نجران، إلا أن بعض المصادر وصفتهم على النحو التالي: يهود نجران هم اليهود الذين تواجدوا في منطقة نجران جنوب شبه الجزيرة العربية -قبل البعثة النبوية- وعملوا في التجارة بالأسواق في صياغة الذهب وحرفة صناعة الخناجر والسيوف وغيرها، ينتسبون إلى «بني الديان» وهي تسمية عبرية لقبيلة تنتسب إلى بني الأزد قطنت نجران واعتنقت اليهودية.
قدرت أعدادهم في العام 1932م في مصادر بسبعة آلاف، حتى وصلوا سنة 1948م الى حوالى 260 شخصاً، كان يعمل معظمهم في الحرف والمهن اليدوية، كما اشتغل القليل منهم في الرعي والزراعة.
سكن «يهود نجران» في أحياء عديدة في نجران أهمها «القابل، رجلاء، الحضن، مراطة، الجربة، بير دار، وسط صاغر، الحوية، دحضة، القلح، العوكلة»، وبقوا «كذميين» لا يؤذون ولا يتحرش بهم، بل جزء من النسيج الاجتماعي بكل تفاصيله وتنوعه وثرائه، وكما كان هارون يعمل في متجره في سوق نجران متوارثاً صنعته صائغاً للذهب، كان بقية أبناء عمومته يتقنون صناعة «الجنابي والسيوف» وتجارة الذهب والفضة.
تقول الروايات الشفوية أيضاً إنه وبعد ازدياد توتر العلاقات «العربية - الإسرائيلية» والضغوط الشعبية والإعلامية على الحكومات العربية والتحريض ضد الجاليات اليهودية، وجد يهود نجران أنفسهم مثل كل يهود العالم العربي في موقف صعب بين ضغط إعلام اليسار والقومجية والمتطرفين وبين المضي قدماً في حياتهم أو الانسحاب بهدوء والهجرة إلى أماكن أخرى.
وكما حصل في العراق ومصر وسوريا واليمن والبحرين والمغرب وبقية الدول العربية، قرر يهود نجران الخروج ولكن هذه المرة طواعية، إذ قدم كبيرهم إلى أمير نجران واستأذنه في المغادرة مع أهاليهم إلى صعدة في اليمن حيث بقية أبناء عمومتهم، مؤكداً -للأمير- أنهم لم يتعرضوا للأذى أو المضايقة لا من السكان المحليين ولا من السلطات وأنهم قرروا ذلك عن قناعة حتى لا يحرجوا الدولة التي يقطنون بها منذ مئات السنين، أمير نجران من ناحيته ترك القرار لهم ومكنهم من أخذ أموالهم وممتلكاتهم معهم دون أن يمسها أحد.
بالفعل خرج هارون ومعه كل يهود نجران باتجاه صعدة في اليمن حاملين معهم أموالهم وممتلكاتهم دون أن يمسها أحد، كثير من أولئك المهاجرين ذهبوا فيما بعد إلى فرنسا وبريطانيا، وجزء صغير منهم بقي في صعدة ومن ثم غادر الى إسرائيل، وهنا تنتهي قصة تعايش إنسانية شهدها جنوب السعودية.
* كاتب سعودي
massaaed@