بعد الغزو العراقي للكويت، استضاف الإعلامي المصري فاروق شوشة في برنامجه «أمسية ثقافية» المفكر العربي فؤاد زكريا، توجه إليه فاروق بصوته الهادئ الرخيم قائلا: «أستاذنا الكبير، ونحن نتأمل أزمة الواقع الثقافي العربي بعد حدوث هذا الزلزال، نتذكر أن الكويت كان لها دور على مستوى التنوير في منطقة الخليج، والمنطقة العربية، كانت هناك مؤسسات مشعة في الكويت، من خلال الجامعة، والمجلس الوطني للثقافة، ومن خلال صيغة للحياة، وصيغة للحوار، وجرى استقطاب عدد كبير من أبرز الأساتذة والرواد المثقفين في العالم العربي، وكنت على رأسهم، وفي وقت سابق جاء إلى الكويت زكي نجيب محمود، وعلي الراعي، وعبدالرحمن بدوي، ولفيف من صفوة العلماء ليس من مصر وحدها، وإنما من العرب ككل، وكانوا يقومون بدور كبير وبارز.. كيف ترى غيبة هذا الدور الآن مربوطاً بخصائص الحياة الثقافية في الكويت؟».
تنهد فؤاد زكريا، وأطرق برأسه قليلاً، ثم قال: «كنت أطالع الصحف العربية، ولفت نظري أن أهم جانب افتقده الناس بعد هذه الأزمة، هو الجانب الثقافي في الكويت، البكاء على الأطلال منصب على الثقافة أكثر من أي جانب آخر، وحزن من أجل المنتجات الثقافية الكويتية».
يشرح فؤاد زكريا طبيعة التجربة الثقافية في الكويت، وهو الخبير فيها والمؤثر في صفحاتها حين عمل أستاذاً للفلسفة في جامعة الكويت، ومستشاراً لسلسلة «عالم المعرفة»، فيقول: «في الكويت كانت هناك سياسة ثقافية لم تكن مكتوبة أو معلنة، ولكنها كانت تطبق بشكل ضمني، تقوم على توظيف الثروة من أجل تقديم خدمة عامة، حيث يؤمن الكويتيون بأنه ما دمنا في سعة من العيش، نمتلك ثروة من المال، لماذا لا نخصص جانباً هاماً لدعم الثقافة، ليس من أجل المجتمع المحلي فحسب، بل لأجل العالم العربي. كما كان هناك جانب من الحرية لا يستهان به في ممارسة العمل الثقافي في الكويت، وأتذكر أنني كتبت مقالات بعضها شديد اللهجة في الصحف اليومية الكويتية، ومخالفة للتيار العام بشكل حاد، وكنت في بعض الأحيان أندهش كيف ينشر في الجريدة دون أن يحذف منه سطر واحد».
في هذا السياق، يتحدث زكريا عن الفارق الكبير ذلك الحين بين المطبوعات العراقية والمطبوعات الكويتية، فحين نتأملها نستطيع أن نفهم الكثير مما يدور على الساحة، ونعرف الفرق بين استغلال الثروة النفطية في دول الخليج عن غيرها من الدول العربية الأخرى، و«الحقيقة كانت تصلني المجلات الثقافية العراقية، ولا أستسيغ قراءتها، تخيل التراث العراقي العظيم الذي نفتخر فيه، يختزل في النهاية إلى فرد واحد (هو صدام)، كيف أقرأها في هذه الحالة، قارن هذا بما كان يحدث في المنتجات الثقافية الكويتية وستلاحظ بنفسك الفرق».
الدكتور فؤاد زكريا كان أحد المثقفين الذين ساندوا الكويت، وناصروها إبان محنتها أيام الغزو العراقي الغاشم، ووقف بقوة ضد المثقفين العرب الذين انحازوا للمعتدي، كان هذا بنظره يعكس شرخاً وأزمة كبيرة في الثقافة العربية، كيف انجرف عدد من المثقفين باسم شعار «الوحدة» إلى أن أصبحوا مؤيدين للمجازر والطغاة!
واجه زكريا الكثير من الهجوم نتيجة لموقفه الأخلاقي المناصر للكويت، اتهمته أطراف عربية بأنه عميل لدول الخليج، ولأمريكا، لم يزده ذلك إلا إصراراً على موقفه الرافض للممارسات الديكتاتورية التي تزينها زخارف الشعارات العروبية، ووثق سجالاته في كتابه (الثقافة العربية وأزمة الخليج).
وصف زكريا لحظة الغزو العراقي للكويت بأنها لحظة تلوث بالفعل، «تلوث سياسي وعسكري أصابنا منذ اللحظة التي فكر فيها بلد عربي في أن يحل مشكلته مع بلد عربي آخر بالغزو، وتلوث أخلاقي تمثل في تلك الممارسات الهمجية التي تفوق كل ما يخطر ببال الخيال المريض، وتلوث مادي في عمليات التلغيم والهدم والتخريب».
أحب فؤاد زكريا الكويت، فمنذ قدومه إليها من مصر عام 1974 وحتى 1991، كان جذوة نشاط وعلم، وإلهام فكري وفلسفي لأبناء المنطقة، وآثار بصماته ما زالت حاضرة حتى اليوم، كان يشعر بالانتماء الكبير لمشروع الكويت الثقافي، ويرى في سلسلة «عالم المعرفة» بأنها مشروع العمر، ومما يروى أن عروضاً مغرية قدمت له في تلك الفترة للإشراف على إنشاء سلسلة بديلة تصدر في موقع آخر غير الكويت وكان رده: «إن لم تواصل سلسلة عالم المعرفة صدورها فلن أعمل في أي سلسلة أخرى بقية عمري».
في كتابه «خطاب إلى العقل العربي» كتب زكريا فصلاً بعنوان «تجربة ثقافية فريدة في الكويت»، تحدث فيه عن ملامح هذه التجربة وثمراتها في تلك الفترة، وكيف استطاعت الكويت أن تستغل الثروة النفطية استغلالاً شديد الذكاء في ميدان الثقافة، واتبعت سياسة تؤدي في المدى الطويل أن تصبح الكويت مركز إشعاع ثقافي يمتد في أرجاء الوطن العربي، وكانت تتميز بجو ليبرالي فريد، «بل إن إطار الليبرالية والتسامح والتعددية الفكرية في الكويت كان أوسع من معظم الأقطار العربية الأخرى»، وهكذا ظهرت المجلات الرائدة والمطبوعات الثقافية، وعرف القارئ العربي منذ أكثر من ربع قرن مجلة ناضجة وهي (العربي)، كما اعتاد أن يقرأ على مستوى أشد تخصصاً أبحاث مجلة (عالم الفكر) وسلسلة (مسرحيات عالمية)، ومن المجلس الوطني للثقافة لا يكاد يوجد شاب مهتم بمجال الفكر والأدب في أي بلد عربي إلا ويتابع سلسلة كتب (عالم المعرفة) ومجلة (الثقافة العالمية).
يعلق زكريا قائلاً: «رغم حزني الشديد، إلا أن أزمة الغزو كشفت لنا أن الثقافة لا تزال لها مكانتها في قلوب الناس لدرجة أنهم يركزون على الإنجازات الثقافية الكويتية باعتبارها أكبر شيء سيخسره العالم العربي نتيجة لهذه الأزمة».
تنهد فؤاد زكريا، وأطرق برأسه قليلاً، ثم قال: «كنت أطالع الصحف العربية، ولفت نظري أن أهم جانب افتقده الناس بعد هذه الأزمة، هو الجانب الثقافي في الكويت، البكاء على الأطلال منصب على الثقافة أكثر من أي جانب آخر، وحزن من أجل المنتجات الثقافية الكويتية».
يشرح فؤاد زكريا طبيعة التجربة الثقافية في الكويت، وهو الخبير فيها والمؤثر في صفحاتها حين عمل أستاذاً للفلسفة في جامعة الكويت، ومستشاراً لسلسلة «عالم المعرفة»، فيقول: «في الكويت كانت هناك سياسة ثقافية لم تكن مكتوبة أو معلنة، ولكنها كانت تطبق بشكل ضمني، تقوم على توظيف الثروة من أجل تقديم خدمة عامة، حيث يؤمن الكويتيون بأنه ما دمنا في سعة من العيش، نمتلك ثروة من المال، لماذا لا نخصص جانباً هاماً لدعم الثقافة، ليس من أجل المجتمع المحلي فحسب، بل لأجل العالم العربي. كما كان هناك جانب من الحرية لا يستهان به في ممارسة العمل الثقافي في الكويت، وأتذكر أنني كتبت مقالات بعضها شديد اللهجة في الصحف اليومية الكويتية، ومخالفة للتيار العام بشكل حاد، وكنت في بعض الأحيان أندهش كيف ينشر في الجريدة دون أن يحذف منه سطر واحد».
في هذا السياق، يتحدث زكريا عن الفارق الكبير ذلك الحين بين المطبوعات العراقية والمطبوعات الكويتية، فحين نتأملها نستطيع أن نفهم الكثير مما يدور على الساحة، ونعرف الفرق بين استغلال الثروة النفطية في دول الخليج عن غيرها من الدول العربية الأخرى، و«الحقيقة كانت تصلني المجلات الثقافية العراقية، ولا أستسيغ قراءتها، تخيل التراث العراقي العظيم الذي نفتخر فيه، يختزل في النهاية إلى فرد واحد (هو صدام)، كيف أقرأها في هذه الحالة، قارن هذا بما كان يحدث في المنتجات الثقافية الكويتية وستلاحظ بنفسك الفرق».
الدكتور فؤاد زكريا كان أحد المثقفين الذين ساندوا الكويت، وناصروها إبان محنتها أيام الغزو العراقي الغاشم، ووقف بقوة ضد المثقفين العرب الذين انحازوا للمعتدي، كان هذا بنظره يعكس شرخاً وأزمة كبيرة في الثقافة العربية، كيف انجرف عدد من المثقفين باسم شعار «الوحدة» إلى أن أصبحوا مؤيدين للمجازر والطغاة!
واجه زكريا الكثير من الهجوم نتيجة لموقفه الأخلاقي المناصر للكويت، اتهمته أطراف عربية بأنه عميل لدول الخليج، ولأمريكا، لم يزده ذلك إلا إصراراً على موقفه الرافض للممارسات الديكتاتورية التي تزينها زخارف الشعارات العروبية، ووثق سجالاته في كتابه (الثقافة العربية وأزمة الخليج).
وصف زكريا لحظة الغزو العراقي للكويت بأنها لحظة تلوث بالفعل، «تلوث سياسي وعسكري أصابنا منذ اللحظة التي فكر فيها بلد عربي في أن يحل مشكلته مع بلد عربي آخر بالغزو، وتلوث أخلاقي تمثل في تلك الممارسات الهمجية التي تفوق كل ما يخطر ببال الخيال المريض، وتلوث مادي في عمليات التلغيم والهدم والتخريب».
أحب فؤاد زكريا الكويت، فمنذ قدومه إليها من مصر عام 1974 وحتى 1991، كان جذوة نشاط وعلم، وإلهام فكري وفلسفي لأبناء المنطقة، وآثار بصماته ما زالت حاضرة حتى اليوم، كان يشعر بالانتماء الكبير لمشروع الكويت الثقافي، ويرى في سلسلة «عالم المعرفة» بأنها مشروع العمر، ومما يروى أن عروضاً مغرية قدمت له في تلك الفترة للإشراف على إنشاء سلسلة بديلة تصدر في موقع آخر غير الكويت وكان رده: «إن لم تواصل سلسلة عالم المعرفة صدورها فلن أعمل في أي سلسلة أخرى بقية عمري».
في كتابه «خطاب إلى العقل العربي» كتب زكريا فصلاً بعنوان «تجربة ثقافية فريدة في الكويت»، تحدث فيه عن ملامح هذه التجربة وثمراتها في تلك الفترة، وكيف استطاعت الكويت أن تستغل الثروة النفطية استغلالاً شديد الذكاء في ميدان الثقافة، واتبعت سياسة تؤدي في المدى الطويل أن تصبح الكويت مركز إشعاع ثقافي يمتد في أرجاء الوطن العربي، وكانت تتميز بجو ليبرالي فريد، «بل إن إطار الليبرالية والتسامح والتعددية الفكرية في الكويت كان أوسع من معظم الأقطار العربية الأخرى»، وهكذا ظهرت المجلات الرائدة والمطبوعات الثقافية، وعرف القارئ العربي منذ أكثر من ربع قرن مجلة ناضجة وهي (العربي)، كما اعتاد أن يقرأ على مستوى أشد تخصصاً أبحاث مجلة (عالم الفكر) وسلسلة (مسرحيات عالمية)، ومن المجلس الوطني للثقافة لا يكاد يوجد شاب مهتم بمجال الفكر والأدب في أي بلد عربي إلا ويتابع سلسلة كتب (عالم المعرفة) ومجلة (الثقافة العالمية).
يعلق زكريا قائلاً: «رغم حزني الشديد، إلا أن أزمة الغزو كشفت لنا أن الثقافة لا تزال لها مكانتها في قلوب الناس لدرجة أنهم يركزون على الإنجازات الثقافية الكويتية باعتبارها أكبر شيء سيخسره العالم العربي نتيجة لهذه الأزمة».