في الرابع من شهر يونيو، أي قبل 24 ساعة من حرب 1967 التي هزمت فيها ثلاثة جيوش عربية، كان وصفي التل رئيس الديوان الملكي الأردني يصرخ وسط مكتبه معارضاً الحرب القادمة. كانت كل الدلائل تشير لهزيمة باهظة يبدو أن الأردن تورط فيها بسبب ضغوط الفصائل الفلسطينية وعبدالناصر والسوريين.
بعد ذلك بعام وتحديدا في 1968 بدأت الفصائل الفلسطينية تتكاثر في الأردن وتأخذ على عاتقها قرار الحرب والسلم نيابة عن القصر الملكي، بل إن فوهة البنادق التي من المفروض أن توجه إلى إسرائيل بدأت توجه للأردنيين.
تشابكت العلاقة بين الفلسطينيين والحكومة الأردنية، بسبب عنف الفدائيين وتقييمهم لوجودهم بأنه فرض واجب على الأردنيين. كان الفدائيون يستيقظون من نومهم ويذهبون إلى الحدود الإسرائيلية يطلقون الرصاص عشوائيا دون نتائج تذكر، ليقوم الجيش الإسرائيلي بضرب المواقع الأردنية بوحشية.
بدأت الحكومات العربية وعلى الأخص الخليجية بسبب الاندفاع الشعبي والاحتلال الوجداني الذي قام به الفلسطينيون في «الشارع» بتنظيم حملات تبرع لصالح المنظمات.
تدفقت الأموال بكثافة للدرجة التي أصبحت فيها المنظمة أغنى من الأردن، لتصبح دولة داخل دولة تمتلك الموارد والأسلحة والمليشيات والإدارة المحلية ومكاتب دبلوماسية - 80 مكتباً حول العالم -.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية تضم تنظيمات صغيرة غير منضبطة، تسبب أحدها في انفجار أحداث دامية مع الأردنيين، عندما قامت في العام 1969 جماعة فدائية اسمها «النصر» بهجوم دموي على الشرطة الأردنية.
بعد وقوع الحادث مباشرة تم التوصل إلى اتفاق بين الملك حسين والمنظمات الفلسطينية لضبط سلوك الفدائيين غير القانوني ضد الحكومة الأردنية، إلا أن المنظمة لم تتمكن من الوفاء بالاتفاق، وأصبحت أعمال أفرادها متوحشة أكثر فأكثر، وفي خضم تلك الأحداث حلّ ياسر عرفات محل أحمد الشقيري رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية في فبراير 1969، مع التذكير بأن الشقيري كان يرفض الاعتراف بالحكم الملكي على الأردن.
بدأت المؤسسات الأردنية تتآكل وتفقد هيبتها وكل ذلك كان يتردد صداه بمرارة داخل القصر الملكي وفي ثكنات الجيش الأردني وبيوت الأردنيين الذين ضاقوا ذرعا بذلك التسلط والعنف والتعالي.
تؤكد المصادر التاريخية أنه بين منتصف 1968 ويوليو 1971 وقعت مئات الاشتباكات المسلحة بين الشرطة والجيش الأردني من جهة وبين الفصائل الفلسطينية راح ضحيتها آلاف الأردنيين ما بين مصاب وقتيل ومختف.
كان من أهم مظاهر إسقاط الدولة الأردنية من الداخل إقامة حكومات محلية تتبع المنظمة، لها لبسها العسكري وتقيم نقاط تفتيش وتدير المناطق الخاضعة لسيطرتها وتفرض الضرائب على السكان المحليين.
حاول الملك الحسين بن طلال أن يكون وسطاً بين كل الأطراف، فأقال وزير داخليته وعين وزراء مقربين من الفلسطينيين، إلا أن كل ذلك لم يرض الفصائل وبقيت تضرب استقلال الأردن بعنف.
قررت بعض التنظيمات المتطرفة داخل منظمة التحرير التحول من تقويض الحكم الأردني إلى المطالبة بإنشاء دولة فلسطينية، حيث قال جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: «إن تحرير فلسطين يبدأ من عمّان، لتشاركه بقية التنظيمات في الهجوم المنظم ضد الملك حسين. المثير أن منظمة التحرير الفلسطينية رفعت السقف عاليا ودعت إلى إقامة سلطة وطنية في الأردن، كانت أول مطالبة علنية رسمية بإنشاء دولة فلسطينية بديلة للحكم الملكي الأردني.
كانت تلك الدعوة بمثابة ساعة الصفر عند الأردنيين، ليتم استدعاء وصفي التل وتعيينه رئيسا للوزراء ولتقع على عاتقه مهمة تاريخية لتحرير بلاده من احتلال الفصائل. حظي التل بدعم من الجيش الأردني بقيادة الجنرال حابس المجالي الذي نفذ تعليمات قيادته بكل شجاعة وتفان.
نفذ الجيش الأردني خطة أسماها «جوهر»، مهمتها استعادة السيادة وضرب الفصائل العسكرية، وبدأت الدبابات الأردنية بالقصف المدفعي العنيف على مواقع المنظمات الفلسطينية، وأخذت المجنزرات باقتحام مخيم الوحدات والبقعة واجتاحت فرق المشاة شوارع المدن لتحريرها من المسلحين.
خلال أشهر استطاعت حكومة وصفي التل تحرير الأردن ودفع الفصائل للخروج إلى سوريا ومنها إلى لبنان ليحدثوا فيه قصة أخرى حين تسببوا في تفجير الحرب الأهلية.
أضحى وصفي التل بطلاً قومياً في بلاده إلا أنه تحول إلى العدو رقم واحد للفصائل الفلسطينية التي قررت إعدامه، وهو ما حصل بالفعل عندما غادر إلى القاهرة في نوفمبر 1971 مترئسا وفد بلاده، وعند وصوله أقدمت مجموعة من الفلسطينيين على اغتياله على مدخل الفندق وأمام بقية رؤساء الوفود العربية.
* كاتب سعودي
massaaed@
بعد ذلك بعام وتحديدا في 1968 بدأت الفصائل الفلسطينية تتكاثر في الأردن وتأخذ على عاتقها قرار الحرب والسلم نيابة عن القصر الملكي، بل إن فوهة البنادق التي من المفروض أن توجه إلى إسرائيل بدأت توجه للأردنيين.
تشابكت العلاقة بين الفلسطينيين والحكومة الأردنية، بسبب عنف الفدائيين وتقييمهم لوجودهم بأنه فرض واجب على الأردنيين. كان الفدائيون يستيقظون من نومهم ويذهبون إلى الحدود الإسرائيلية يطلقون الرصاص عشوائيا دون نتائج تذكر، ليقوم الجيش الإسرائيلي بضرب المواقع الأردنية بوحشية.
بدأت الحكومات العربية وعلى الأخص الخليجية بسبب الاندفاع الشعبي والاحتلال الوجداني الذي قام به الفلسطينيون في «الشارع» بتنظيم حملات تبرع لصالح المنظمات.
تدفقت الأموال بكثافة للدرجة التي أصبحت فيها المنظمة أغنى من الأردن، لتصبح دولة داخل دولة تمتلك الموارد والأسلحة والمليشيات والإدارة المحلية ومكاتب دبلوماسية - 80 مكتباً حول العالم -.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية تضم تنظيمات صغيرة غير منضبطة، تسبب أحدها في انفجار أحداث دامية مع الأردنيين، عندما قامت في العام 1969 جماعة فدائية اسمها «النصر» بهجوم دموي على الشرطة الأردنية.
بعد وقوع الحادث مباشرة تم التوصل إلى اتفاق بين الملك حسين والمنظمات الفلسطينية لضبط سلوك الفدائيين غير القانوني ضد الحكومة الأردنية، إلا أن المنظمة لم تتمكن من الوفاء بالاتفاق، وأصبحت أعمال أفرادها متوحشة أكثر فأكثر، وفي خضم تلك الأحداث حلّ ياسر عرفات محل أحمد الشقيري رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية في فبراير 1969، مع التذكير بأن الشقيري كان يرفض الاعتراف بالحكم الملكي على الأردن.
بدأت المؤسسات الأردنية تتآكل وتفقد هيبتها وكل ذلك كان يتردد صداه بمرارة داخل القصر الملكي وفي ثكنات الجيش الأردني وبيوت الأردنيين الذين ضاقوا ذرعا بذلك التسلط والعنف والتعالي.
تؤكد المصادر التاريخية أنه بين منتصف 1968 ويوليو 1971 وقعت مئات الاشتباكات المسلحة بين الشرطة والجيش الأردني من جهة وبين الفصائل الفلسطينية راح ضحيتها آلاف الأردنيين ما بين مصاب وقتيل ومختف.
كان من أهم مظاهر إسقاط الدولة الأردنية من الداخل إقامة حكومات محلية تتبع المنظمة، لها لبسها العسكري وتقيم نقاط تفتيش وتدير المناطق الخاضعة لسيطرتها وتفرض الضرائب على السكان المحليين.
حاول الملك الحسين بن طلال أن يكون وسطاً بين كل الأطراف، فأقال وزير داخليته وعين وزراء مقربين من الفلسطينيين، إلا أن كل ذلك لم يرض الفصائل وبقيت تضرب استقلال الأردن بعنف.
قررت بعض التنظيمات المتطرفة داخل منظمة التحرير التحول من تقويض الحكم الأردني إلى المطالبة بإنشاء دولة فلسطينية، حيث قال جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: «إن تحرير فلسطين يبدأ من عمّان، لتشاركه بقية التنظيمات في الهجوم المنظم ضد الملك حسين. المثير أن منظمة التحرير الفلسطينية رفعت السقف عاليا ودعت إلى إقامة سلطة وطنية في الأردن، كانت أول مطالبة علنية رسمية بإنشاء دولة فلسطينية بديلة للحكم الملكي الأردني.
كانت تلك الدعوة بمثابة ساعة الصفر عند الأردنيين، ليتم استدعاء وصفي التل وتعيينه رئيسا للوزراء ولتقع على عاتقه مهمة تاريخية لتحرير بلاده من احتلال الفصائل. حظي التل بدعم من الجيش الأردني بقيادة الجنرال حابس المجالي الذي نفذ تعليمات قيادته بكل شجاعة وتفان.
نفذ الجيش الأردني خطة أسماها «جوهر»، مهمتها استعادة السيادة وضرب الفصائل العسكرية، وبدأت الدبابات الأردنية بالقصف المدفعي العنيف على مواقع المنظمات الفلسطينية، وأخذت المجنزرات باقتحام مخيم الوحدات والبقعة واجتاحت فرق المشاة شوارع المدن لتحريرها من المسلحين.
خلال أشهر استطاعت حكومة وصفي التل تحرير الأردن ودفع الفصائل للخروج إلى سوريا ومنها إلى لبنان ليحدثوا فيه قصة أخرى حين تسببوا في تفجير الحرب الأهلية.
أضحى وصفي التل بطلاً قومياً في بلاده إلا أنه تحول إلى العدو رقم واحد للفصائل الفلسطينية التي قررت إعدامه، وهو ما حصل بالفعل عندما غادر إلى القاهرة في نوفمبر 1971 مترئسا وفد بلاده، وعند وصوله أقدمت مجموعة من الفلسطينيين على اغتياله على مدخل الفندق وأمام بقية رؤساء الوفود العربية.
* كاتب سعودي
massaaed@