خلال مدة قصيرة لا تزيد على بضع سنين اتخذت المملكة عددا من القرارات الشجاعة والمفصلية في تاريخ نهضتها الحديثة، قرارات كنا حتى عهد قريب نرى أن مجرد الحلم بها من المحظورات. كلما صدر واحد من هذه القرارات ظننّا أننا وصلنا نهاية المضمار وتسلقنا رأس جبل الجليد، ثم نتفاجأ في اليوم التالي بخبر آخر يثلج الصدور ويشرح النفوس. مجتمعنا يمر بثورة ثقافية واجتماعية ليس فيها إطلاق نار ولا سفك دماء، ثورة تختصر الزمن وتنعدم فيها الخسائر في الممتلكات وفي الأرواح، ربيع عربي وردي تتحقق فيه الأحلام الكبار وتُختصر فيه المسافات الطوال.
لم تعد ذاكرتي الهرمة تتذكر كل الإنجازات المتوالية ولا تراتبيتها لكثرتها وسرعة تواليها واحدة بعد الأخرى. ولتستوعب الأجيال الشابة حجم الإنجازات التي تحققت في هذا العهد الزاهر لعلنا نذكرهم بسنوات عجاف عايشناها نحن الشيوخ كان فيها يُحرّم علينا اقتناء المذياع والمسجلات وركوب الدراجة ومشاهدة التلفزيون. كانت فرق المتطوعين من ذات أنفسهم ومن دون تكليف رسمي يطوفون الشوارع ويتطلعون إلى السطوح ومن رأوا في سطحه جهازًا لاستقبال المحطات التلفزيونية أمروه بتكسيره.
إنه لممّا يسعدني في آخر عمري أن أرى بلدي تمر بهذا الغلاسنوست glasnost وهذه البيريسترويكا perestroika، هذا الانفتاح وإعادة البناء. لم أكن أنا وأبناء جيلي نحلم أن مجتمعنا كان مستعدا لتقبل ما يحدث الآن والترحيب به واستيعابه وتمريره وكأنه أمر عادي.
في البدء كنا نتوقع أن الأمر سيتوقف عند تمكين المرأة ومنحها الولاية والسماح لها بالقيادة. كنا نرى أن هذا بحد ذاته إنجاز كبير يصعب تخطيه، فإذا بالدولة تسمح للنساء بحضور الحفلات والاستمتاع بالمباريات الرياضية من على مدرجات الملاعب، وقبل ذلك تفرض هيبتها وتكف أذرع رجال الهيئة عن ممارسة هوايتهم في مضايقة النساء في الأماكن العامة وعن ملاحقة الناس الأبرياء وجلد ظهورهم بخيزراناتهم. ثم نفاجأ بهيئة الترفيه تفتح دور السينما وتنهال علينا ببرامجها الترفيهية وحفلاتها الغنائية. وعرف الشعب السعودي -رجالا ونساء- ولأول مرة معنى الفرح والبهجة في بلده وعلى أرض وطنه. وعدا هيئة الترفيه، فإن وزارة الثقافة بقيادة وزيرها الشاب تعمل ليل نهار على إعداد الاستراتيجيات والهيكليات والكوادر لإعادة فتح المسارح وتعليم الشباب الموسيقى والتمثيل والإنتاج الفني وحصر موروثنا الفني بكل أجناسه وفي كل المناطق والشرائح الاجتماعية. ومما يثلج الصدر ويشرح النفس أن ذلك كله يتم بأيدٍ سعودية.
تلك كانت عقبات ما كنت أنا وأبناء جيلي نحلم يوما أننا سنتخطاها. لكن أكثر ما أثلج صدري ومنحني جرعة قوية من الأمل والثقة بأن المسيرة التحديثية في مملكتنا لم تصل ذروتها بعد هو آخر قرار صدر بخصوص حرية الأديان والعبادة. لم أفرح بقرار مثلما فرحت بهذا القرار التاريخي. هذا القرار يؤسس لحقبة جديدة ومرحلة مفصلية في تاريخنا الاجتماعي والثقافي. لعلنا نتذكر أن مبدأ الحرية الدينية الذي أنهى الصراع بين البروتستانت والكاثوليك شكل لحظة فارقة في تاريخ أوروبا بين العصور الوسطى والعصر الحديث. إنه البوابة التي نفذت منها أوروبا إلى العصر الحديث. هذا عدا أن الحرية الدينية وما تعنيه من حرية العبادة تزيل همًّا ظل جاثما على صدورنا طيلة العقود الماضية، وهو ذلك الجفاء بين السنة والشيعة الذي كدر صفو عيشنا والذي نكون بهذا القرار الحكيم والشجاع ودعناه إلى غير رجعة. ولا أدل على مصداقية هذا التوجه والالتزام به من الكلمات الصريحة والمعبرة التي أدلى بها في لقاء تلفزيوني معالي وزير العدل السابق رئيس رابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد بن عبدالكريم العيسى، كلمات شفافة نفذت إلى قلوب الجميع لأنها مباشرة ومعتدلة وخالية من التنميق. وقد قالها الشيخ صريحة بأن المشكلة في الطائفية وليست في المذهبية، ومما يعطي كلمات الشيخ محمد مصداقية وعمقا هو ما له من جهود مذكورة ومشكورة في التقريب بين الأديان على مستوى العالم. هذه قرارات ستلجم أفواه الشامتين والمتربصين شرقا وغربا. ومن المأمول أن يسود هذا الاعتدال من الآن فصاعدا في جميع مطارحاتنا الدينية وغير الدينية.
بعد كل هذا أستطيع أن أجزم بأن المزيد قادم وأن القطار لا يزال على مساره وبنفس السرعة لكنه لم يصل بعدُ حتى إلى منتصف الطريق، وعلى قول المثل الشعبي «الليلة القمرا تبيّن من عشا». لقد علمتني السنوات القليلة الماضية ألّا أُحجّم أحلامي وألا أقص أجنحة الخيال.
لن أتكلم عن الإنجازات الاقتصادية والسياسية فهذا ليس مجالي، وهي على كل حال واضحة للعيان. فالسعودية كانت قد سجلت اسمها منذ أمد بعيد وبالخط العريض في نادي العالم الأول باقتصادها، وهي الآن تعزز موقعها هذا اجتماعيا وثقافيا. ما يهمني هو هذه القفزات الثقافية والاجتماعية التي تشكل في مجملها لب الحضارة والعمران، أو بمعنى آخر التقدم والتطور. ونحن بانتظار المزيد من دولتنا التي عودتنا على سيل لا ينقطع من المفاجآت السارة.
إلى هنا نستطيع القول بأن الدولة عملت الكثير لتحديث المجتمع السعودي ولا أعتقد أن أمة من الأمم قبل السعودية استطاعت أن تختصر المسافات وتخطو هذه الخطوات الجبارة والجريئة في هذه المدة القياسية، والمستقبل يعد بالأكثر. لم يعد هناك الآن ما يمنعني من أن أقول بملء فمي إن السعودية حكومة وشعبا تحتل مركزا بارزا بين شعوب العالم المتحضر.
دولتنا تعمل كل ما في وسعها عمله من أجل المواطن ومن أجل الدفع بوطننا إلى مصاف الأمم المتقدمة صناعيا واقتصاديا وثقافيا، ولم يتبقّ إلا أن نقوم نحن بدورنا كمواطنين وذلك بأن نتحلى جميعنا بالسلوك الحضاري المنفتح والمتسامح. ينبغي أن ننبذ وراء ظهورنا العنجهية والعنصرية والمذهبية وما في شاكلتها من الانتماءات المناطقية والحزازات القبلية وتمايزات النسب، وأن نتعامل مع بعضنا من منطلق السواسية والفرص المتكافئة. فهذه القيم والانتماءات والسلوكيات لم تعد متسقة مع مركزية الدولة ومفهوم الدولة ومع واقع المجتمع السعودي الحديث، فهي من مخلفات العصور البائدة التي لا تزال عالقة في الأجواء وينبغي نبذها خلف ظهورنا والتحرر منها. هذا قرار على المواطن اتخاذه لأنه خارج اختصاصات الدولة، فالدولة لم تفرق بين مواطنيها في الفرص التعليمية والوظيفية والعلاجية وتعامل الجميع كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
* كاتب سعودي
لم تعد ذاكرتي الهرمة تتذكر كل الإنجازات المتوالية ولا تراتبيتها لكثرتها وسرعة تواليها واحدة بعد الأخرى. ولتستوعب الأجيال الشابة حجم الإنجازات التي تحققت في هذا العهد الزاهر لعلنا نذكرهم بسنوات عجاف عايشناها نحن الشيوخ كان فيها يُحرّم علينا اقتناء المذياع والمسجلات وركوب الدراجة ومشاهدة التلفزيون. كانت فرق المتطوعين من ذات أنفسهم ومن دون تكليف رسمي يطوفون الشوارع ويتطلعون إلى السطوح ومن رأوا في سطحه جهازًا لاستقبال المحطات التلفزيونية أمروه بتكسيره.
إنه لممّا يسعدني في آخر عمري أن أرى بلدي تمر بهذا الغلاسنوست glasnost وهذه البيريسترويكا perestroika، هذا الانفتاح وإعادة البناء. لم أكن أنا وأبناء جيلي نحلم أن مجتمعنا كان مستعدا لتقبل ما يحدث الآن والترحيب به واستيعابه وتمريره وكأنه أمر عادي.
في البدء كنا نتوقع أن الأمر سيتوقف عند تمكين المرأة ومنحها الولاية والسماح لها بالقيادة. كنا نرى أن هذا بحد ذاته إنجاز كبير يصعب تخطيه، فإذا بالدولة تسمح للنساء بحضور الحفلات والاستمتاع بالمباريات الرياضية من على مدرجات الملاعب، وقبل ذلك تفرض هيبتها وتكف أذرع رجال الهيئة عن ممارسة هوايتهم في مضايقة النساء في الأماكن العامة وعن ملاحقة الناس الأبرياء وجلد ظهورهم بخيزراناتهم. ثم نفاجأ بهيئة الترفيه تفتح دور السينما وتنهال علينا ببرامجها الترفيهية وحفلاتها الغنائية. وعرف الشعب السعودي -رجالا ونساء- ولأول مرة معنى الفرح والبهجة في بلده وعلى أرض وطنه. وعدا هيئة الترفيه، فإن وزارة الثقافة بقيادة وزيرها الشاب تعمل ليل نهار على إعداد الاستراتيجيات والهيكليات والكوادر لإعادة فتح المسارح وتعليم الشباب الموسيقى والتمثيل والإنتاج الفني وحصر موروثنا الفني بكل أجناسه وفي كل المناطق والشرائح الاجتماعية. ومما يثلج الصدر ويشرح النفس أن ذلك كله يتم بأيدٍ سعودية.
تلك كانت عقبات ما كنت أنا وأبناء جيلي نحلم يوما أننا سنتخطاها. لكن أكثر ما أثلج صدري ومنحني جرعة قوية من الأمل والثقة بأن المسيرة التحديثية في مملكتنا لم تصل ذروتها بعد هو آخر قرار صدر بخصوص حرية الأديان والعبادة. لم أفرح بقرار مثلما فرحت بهذا القرار التاريخي. هذا القرار يؤسس لحقبة جديدة ومرحلة مفصلية في تاريخنا الاجتماعي والثقافي. لعلنا نتذكر أن مبدأ الحرية الدينية الذي أنهى الصراع بين البروتستانت والكاثوليك شكل لحظة فارقة في تاريخ أوروبا بين العصور الوسطى والعصر الحديث. إنه البوابة التي نفذت منها أوروبا إلى العصر الحديث. هذا عدا أن الحرية الدينية وما تعنيه من حرية العبادة تزيل همًّا ظل جاثما على صدورنا طيلة العقود الماضية، وهو ذلك الجفاء بين السنة والشيعة الذي كدر صفو عيشنا والذي نكون بهذا القرار الحكيم والشجاع ودعناه إلى غير رجعة. ولا أدل على مصداقية هذا التوجه والالتزام به من الكلمات الصريحة والمعبرة التي أدلى بها في لقاء تلفزيوني معالي وزير العدل السابق رئيس رابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد بن عبدالكريم العيسى، كلمات شفافة نفذت إلى قلوب الجميع لأنها مباشرة ومعتدلة وخالية من التنميق. وقد قالها الشيخ صريحة بأن المشكلة في الطائفية وليست في المذهبية، ومما يعطي كلمات الشيخ محمد مصداقية وعمقا هو ما له من جهود مذكورة ومشكورة في التقريب بين الأديان على مستوى العالم. هذه قرارات ستلجم أفواه الشامتين والمتربصين شرقا وغربا. ومن المأمول أن يسود هذا الاعتدال من الآن فصاعدا في جميع مطارحاتنا الدينية وغير الدينية.
بعد كل هذا أستطيع أن أجزم بأن المزيد قادم وأن القطار لا يزال على مساره وبنفس السرعة لكنه لم يصل بعدُ حتى إلى منتصف الطريق، وعلى قول المثل الشعبي «الليلة القمرا تبيّن من عشا». لقد علمتني السنوات القليلة الماضية ألّا أُحجّم أحلامي وألا أقص أجنحة الخيال.
لن أتكلم عن الإنجازات الاقتصادية والسياسية فهذا ليس مجالي، وهي على كل حال واضحة للعيان. فالسعودية كانت قد سجلت اسمها منذ أمد بعيد وبالخط العريض في نادي العالم الأول باقتصادها، وهي الآن تعزز موقعها هذا اجتماعيا وثقافيا. ما يهمني هو هذه القفزات الثقافية والاجتماعية التي تشكل في مجملها لب الحضارة والعمران، أو بمعنى آخر التقدم والتطور. ونحن بانتظار المزيد من دولتنا التي عودتنا على سيل لا ينقطع من المفاجآت السارة.
إلى هنا نستطيع القول بأن الدولة عملت الكثير لتحديث المجتمع السعودي ولا أعتقد أن أمة من الأمم قبل السعودية استطاعت أن تختصر المسافات وتخطو هذه الخطوات الجبارة والجريئة في هذه المدة القياسية، والمستقبل يعد بالأكثر. لم يعد هناك الآن ما يمنعني من أن أقول بملء فمي إن السعودية حكومة وشعبا تحتل مركزا بارزا بين شعوب العالم المتحضر.
دولتنا تعمل كل ما في وسعها عمله من أجل المواطن ومن أجل الدفع بوطننا إلى مصاف الأمم المتقدمة صناعيا واقتصاديا وثقافيا، ولم يتبقّ إلا أن نقوم نحن بدورنا كمواطنين وذلك بأن نتحلى جميعنا بالسلوك الحضاري المنفتح والمتسامح. ينبغي أن ننبذ وراء ظهورنا العنجهية والعنصرية والمذهبية وما في شاكلتها من الانتماءات المناطقية والحزازات القبلية وتمايزات النسب، وأن نتعامل مع بعضنا من منطلق السواسية والفرص المتكافئة. فهذه القيم والانتماءات والسلوكيات لم تعد متسقة مع مركزية الدولة ومفهوم الدولة ومع واقع المجتمع السعودي الحديث، فهي من مخلفات العصور البائدة التي لا تزال عالقة في الأجواء وينبغي نبذها خلف ظهورنا والتحرر منها. هذا قرار على المواطن اتخاذه لأنه خارج اختصاصات الدولة، فالدولة لم تفرق بين مواطنيها في الفرص التعليمية والوظيفية والعلاجية وتعامل الجميع كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
* كاتب سعودي