لطالما ارتبطت غرابة الأطوار بالمبدعين والفلاسفة والعباقرة على مر التاريخ.. هذه مسألة محسومة ومفروغ منها وتكشفها آلاف الصفحات التي تناولت سيرهم ومواقفهم وبعض سلوكياتهم الغريبة، إذ كثيراً ما نُظر إلى تلك السلوكيات على أنها نتيجة للإصابة ببعض الاضطرابات العقلية والنفسية.
في العالم العربي لدينا خلط كبير بين المبدع والمثقف، فالمبدع صاحب موهبة عبقرية، أما المثقف فهو صاحب الاطلاع الواسع والمتنوع، أي أن المبدع قد يكون مثقفاً، لكن ليس كل مثقف مبدعاً، فبإمكان كل محدودي الذكاء والقدرات والمحرومين من المواهب في هذا العالم أن يصبحوا مثقفين بالإكثار من القراءة وسعة الاطلاع لكن ذلك لن يصنع منهم مبدعين في نهاية المطاف.
هذا الخلط وقع فيه برأيي الزميل الأستاذ علي الرباعي في مقالته التي نشرتها «عكاظ» أخيراً بعنوان «أخلاق مثقفين»، إذ رأى أن المثقف لا بد أن يكون مثالياً نبيلاً موضوعياً متصالحاً مع المجتمع ويتمتع بالإيجابية ورضا الناس وامتنانهم وغير ذلك من الصفات الجميلة التي نتمنى أن يتمتع بها كل إنسان على سطح هذا الكوكب، لكن الواقع لا يمكن أن يتماشى دائماً مع أمنياتنا، فمن المثقفين مبدعون نزقون ذوو شخصيات حدية متشبعة بغرابة الأطوار، ومع ذلك لا يمكننا نزع صفة الثقافة عنهم بسبب طبيعتهم الغريبة، كما أننا لا نملك في الأساس السلطة لطردهم من عالم الثقافة، فالسلطة للتاريخ الذي سيحكم على نتاجهم وسيُسقط كل اضطراباتهم من معايير التقييم كما هي عادته.
ولو افترضنا أن بأيدينا نبذ وإقصاء غريبي الأطوار من المبدعين وعمدنا فعلياً إلى حجب نتاجهم وإبداعهم عن الناس، فإننا بهذا نرتكب جريمة في حق ثقافتنا قبل كل شيء، ولنتخيل على سبيل المثال أن نتاج فريدريك نيتشة حُجب وأتلف وطمست سيرته من قبل مثقفي عصره لأنه كان عدائياً مضطرب السلوك ويحتقر النساء وقضى آخر 12 سنة من عمره في مستشفى الأمراض العقلية، أو أن لوحات فان جوخ أُحرقت لأنه كان مهووساً يحاول قتل أصدقائه واشتهر بقطع أذنه واهدائها لفتاة قبل أن يغادر العالم بإطلاقه النار على نفسه، أو لنتخيل أن كل الإبداع السردي لـ(تشالرز ديكنز) رُفض نشره من قبل ناشري ومثقفي عصره لأنه كان صاحب ممارسات غير سوية كاعتياده على التسلل ليلاً إلى منازل الناس عبر النوافذ لمفاجأتهم حسب تفسيره للأمر!
الحقيقة باختصار أن هناك مثقفاً نبيلاً ومثقفاً خلوقاً، ومثقفاً عدائياً، ومثقفاً مضطرباً عقلياً ومثقفاً منافقاً ومثقفاً خسيساً ومثقفاً مجرماً أو ربما قاتلاً تسلسلياً.. والإشكالية الحقيقية تكمن في محاولاتنا المستمرة تقديم المثقف كقديّس أو قدوة، لأننا مدمنون في العالم العربي على ظاهرة صناعة القدوات الناتجة عن ميلنا الشديد للتبعية!
كاتب سعودي
Hani_DH@
في العالم العربي لدينا خلط كبير بين المبدع والمثقف، فالمبدع صاحب موهبة عبقرية، أما المثقف فهو صاحب الاطلاع الواسع والمتنوع، أي أن المبدع قد يكون مثقفاً، لكن ليس كل مثقف مبدعاً، فبإمكان كل محدودي الذكاء والقدرات والمحرومين من المواهب في هذا العالم أن يصبحوا مثقفين بالإكثار من القراءة وسعة الاطلاع لكن ذلك لن يصنع منهم مبدعين في نهاية المطاف.
هذا الخلط وقع فيه برأيي الزميل الأستاذ علي الرباعي في مقالته التي نشرتها «عكاظ» أخيراً بعنوان «أخلاق مثقفين»، إذ رأى أن المثقف لا بد أن يكون مثالياً نبيلاً موضوعياً متصالحاً مع المجتمع ويتمتع بالإيجابية ورضا الناس وامتنانهم وغير ذلك من الصفات الجميلة التي نتمنى أن يتمتع بها كل إنسان على سطح هذا الكوكب، لكن الواقع لا يمكن أن يتماشى دائماً مع أمنياتنا، فمن المثقفين مبدعون نزقون ذوو شخصيات حدية متشبعة بغرابة الأطوار، ومع ذلك لا يمكننا نزع صفة الثقافة عنهم بسبب طبيعتهم الغريبة، كما أننا لا نملك في الأساس السلطة لطردهم من عالم الثقافة، فالسلطة للتاريخ الذي سيحكم على نتاجهم وسيُسقط كل اضطراباتهم من معايير التقييم كما هي عادته.
ولو افترضنا أن بأيدينا نبذ وإقصاء غريبي الأطوار من المبدعين وعمدنا فعلياً إلى حجب نتاجهم وإبداعهم عن الناس، فإننا بهذا نرتكب جريمة في حق ثقافتنا قبل كل شيء، ولنتخيل على سبيل المثال أن نتاج فريدريك نيتشة حُجب وأتلف وطمست سيرته من قبل مثقفي عصره لأنه كان عدائياً مضطرب السلوك ويحتقر النساء وقضى آخر 12 سنة من عمره في مستشفى الأمراض العقلية، أو أن لوحات فان جوخ أُحرقت لأنه كان مهووساً يحاول قتل أصدقائه واشتهر بقطع أذنه واهدائها لفتاة قبل أن يغادر العالم بإطلاقه النار على نفسه، أو لنتخيل أن كل الإبداع السردي لـ(تشالرز ديكنز) رُفض نشره من قبل ناشري ومثقفي عصره لأنه كان صاحب ممارسات غير سوية كاعتياده على التسلل ليلاً إلى منازل الناس عبر النوافذ لمفاجأتهم حسب تفسيره للأمر!
الحقيقة باختصار أن هناك مثقفاً نبيلاً ومثقفاً خلوقاً، ومثقفاً عدائياً، ومثقفاً مضطرباً عقلياً ومثقفاً منافقاً ومثقفاً خسيساً ومثقفاً مجرماً أو ربما قاتلاً تسلسلياً.. والإشكالية الحقيقية تكمن في محاولاتنا المستمرة تقديم المثقف كقديّس أو قدوة، لأننا مدمنون في العالم العربي على ظاهرة صناعة القدوات الناتجة عن ميلنا الشديد للتبعية!
كاتب سعودي
Hani_DH@