-A +A
علي بن محمد الرباعي
قبل ما يزيد على ثلاثين عاماً، كنتُ جالساً بين المطاف والمكبرية في الحرم المكي، ما بين الركن اليماني والحجر الأسود بعد صلاة مغرب، في ليلة من ليالي عام 1985، وكان السجاد يمد بأطراف صحن الطواف للمصلين والمتأملين.

لفتني زي متحدث وصوته الجهوري مع أحد أئمة المسجد الحرام، وربطه بين إعصار ضرب حينها الولايات المتحدة الأمريكية ومضمون آية سورة الرعد (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم).


تسبيب ذو العمة والجلباب (الإعصار) بالكفر دفعني للاقتراب منه والسلام عليه، وعرفت من أحد الحضور أن المتحدث مؤسس جماعة الإخوان في العراق محمد محمود الصواف، وانتهى اللقاء بأداء صلاة العشاء.

أعادني وباء كورونا للتأمل في النصوص المقدسة بعيداً عن التفسيرات القطعية والتوجيهات المتعسفة، وتوقفت مجدداً عند آية سورة الرعد آنفة الذكر، وتساءلت هل فعلاً الكفر سبب ما يصيب البشر من بلاء؟ ماذا لو حلت الرزايا ببلد مسلم؟ أو وقعت كارثة على إنسان مؤمن؟

إسقاط النص القرآني المقدس على الواقع وتطبيق دلالاته على مجموعة أو طائفة أو عائلة أو أسرة مدعاة لإشكالات بحق النص وحق الواقع، خصوصاً إذا طبقنا ما يسمى في أصول الفقه (مفهوم المخالفة) عبر الآية وأثبتنا للمسكوت عنه (المؤمنين) خلاف حكم المنطوق به (للكفار) بمعنى لو قبلنا تفسير الصواف الموحي بالشماتة من المخالفين ممن نعتهم بالكفار ورضينا ليّ أعناق الآيات لتتناغم وتتواءم مع التوجه الأيديولوجي للجماعة، وسلمنا جدلاً أن جماعة الإخوان مؤمنة ومطبقة لدين الله كما يجب، فيلزم أن يكون النصر حليفها وأن تُعصم من الكوارث والحوادث التي شتت شملها طيلة تسعين عاماً، وألا تصيبهم بما صنعوا قوارع ولا تحل قريباً من دارهم.

تسللت الأيديولوجيا الإخوانية إلى وعينا العام منذ عقود، فغدا البعض لا يبصر إلا عبر منظارها، ولا ينطق إلا بلسانها ولا يتمثل إلا أدبيات رموزها، وكأنما قدرة الكون طوع أمر حزب ورهن إشارة جماعة مهووسين بافتعال الأزمات وتصفية الحسابات، والتألي على الله، والحكم بأن المصيبة التي أصابت فلاناً أو علاناً بسبب عصيان أو فسق أو ظلم ما يتصادم مع طوارق الأحزان اليومية النازلة بمن هم أهل إسلام وطاعة في الظاهر.

لم يمر عصر منذ فجر التاريخ دون أن تحتفظ ذاكرة أهله بكارثة، أو تحل ببعض ناسه قارعة، أو ينالهم نيل من قحط أو وباء، وفي آية (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات) ردٌ على من نصّبوا ذواتهم المزكاة لتقييم المصائب وتفصيلها على مقاسات وعزوها لأسباب تبرر لهم التشفي الذي يتنافى مع أدب التسليم بالقدر خيره وشره، إذ ليس بالضرورة أن يكون نزول مصيبة بإنسان دليل سوئه كونه نزل بأفضل البشر قدراً وأكبرهم مقاماً.

الشماتة حال الكوارث والفقد دليل خبث طوية، وجهالة بالله، وربما تكون عقاباً إلهياً وابتلاء لمدعي الإيمان بحرمانه من الحس الإنساني، أو أنه استدراج ليحل مستقبلاً بالشامت ما هو أسوأ وأنكأ وربك يخلق ما يشاء ويختار ولطالما أصبح الحزن ضيف بيت نام أهله على فرح.

لا تخلو الصدمات والنكبات من رسائل لإيقاظ القلب وتطهير النفس وتهذيب الروح، إلا أن عظمة الأقدار تتمثل في عدالتها ومساواتها بين البشر وعدم استثناء أحد من مصاب، إما محسوس أو غير محسوس، بمن فيهم الأنبياء والرسل عليهم السلام.

تفسير المصاب وتسبيبه سوء تقدير، وبلادة تفكير، حين ينصّب أحدهم نفسه مدعياً عاماً ليترافع أمام محكمة العدل الإلهي، فيوزع الاتهامات ويستعرض حيثيات قضية هي للغيب أقرب منها إلى عالم الشهادة، والأقدار توزع أنصبة وحصص الخلق على كل دار.

التدين غير المؤسس على فطنة ذاتية، والموظّف لخدمة أجندة حزبية، والمستغل لتمرير مشاعر متخمرة في دواخل غير سوية مظنة إرباك الشخصية، يفقدها توازنها حد أن البعض يختل نفسياً ويخيّل إليه أنه سيد الأسوياء.

أتساءل اليوم عن تفسير الحركيين لجائحة كورونا، وهل أعادتهم الحوادث والكوارث للموضوعية؟ أم أنها زادتهم غياً إلى غيهم؟، وماذا عن صياغة الأزمات للأدبيات؟

أبوالعلاء المعري فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة اختصر مفهومه لعلاقة الغيب مع الإنسان بقوله (تقفون والفُلك المسخّرُ دائرٌ، وتُقدّرون فتضحك الأقدارُ).

كاتب سعودي

Al_ARobai@