-A +A
صدقة يحيى فاضل
يعتبر «التنبؤ» في مجال الظواهر الاجتماعية أمرا بالغ الصعوبة، و«معضلة» كبرى تواجه علماء التخصصات الاجتماعية، والباحثين فيها، وخاصة في مجالات: الاقتصاد، الاجتماع، النفس، التاريخ البشري، علم الإنسان، السياسة والعلاقات الدولية، بل إن الدراسة العلمية الدقيقة لهذه المجالات تواجه نفس الصعوبات، لأسباب من أهمها: طبيعة الظاهرة الاجتماعية، وتعلقها بسلوك الإنسان... وغالباً ما يصعب إخضاع هذا السلوك للدراسة العلمية البحتة. كما أن الباحث العلمي الاجتماعي هو جزء من الواقع، الذي يحاول دراسته. واحتمال تلون نتائج الدراسة بوجهات نظره يظل واردا.

ورغم ذلك، برز في العالم علماء وباحثون في هذه المجالات، كانت لهم تنبؤات مستقبلية صحيحة، ودقيقة، أو قريبة من الصحة. وفى مقدمة هؤلاء يأتي عالم الاجتماع والمفكر الأمريكي الشهير «ألفين توفلر» (Alvin Toffler) الذى تنبأ بأحداث عالمية كبرى، وقعت بالفعل. ولد يوم 4/‏12/‏1928م، وتوفي يوم 27/‏6/‏2016م. ويعتبر من مؤسسي ما يسمى بـ«علم المستقبل» (Futurology). كتب عدة كتب وأبحاث ومقالات، بعضها بالاشتراك مع زوجته «هايدي». وقد ترجمت معظم كتاباته إلى عشرات اللغات، ومنها العربية. ولعل أهم وأشهر كتبه هما كتابا «صدمة المستقبل» الذى بيع منه حوالى 20 مليون نسخة، وكتاب «الموجة الثالثة» الشهير.


درس في جامعة «كورنيل» الأمريكية الشهيرة وفي غيرها من الجامعات. ومن طلابه كل من: ميخائيل جورباتشوف، آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي، والرئيس الهندي «أبوبكر زين العابدين»، وغيرهما من كبار قادة العالم ورجال الأعمال به. وعمل نائبا لرئيس تحرير مجلة «فورتشن» (Fortune) المعروفة. وصفته مؤسسة «أكسنتور» للاستشارات الإدارية بأنه ثالث أهم رواد الأعمال في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، بعد كل من «بيل غيتس»، وأستاذ إدارة الأعمال في جامعة كليرمونت الأمريكية «بيتر دركر».

****

من أبرز تنبؤاته التي تحققت في أرض الواقع بالفعل: دخول العالم الثورة التقنية الهائلة، التي تجسدت، أكثر ما تجسدت، في ثورة الاتصالات والإنترنت والثورة الرقمية، والقفزة النوعية في هذه المجالات، التي حصلت فعلا بعد تنبؤه. وتحدث عن تأثير هذه الثورات على إنسان العصر، ومعاناته من كثرة المعلومات التي اعتبرها مشكلة من أهم مشاكل العصر. وأدهش العالم حين تنبأ، وبدرجة عالية من الدقة، بالتطورات الاقتصادية والتكنولوجية الحديثة، بما في ذلك انتشار الديمقراطية، وتطور علم الاستنساخ والحاسوب الشخصي. وتحدث عن التأثيرات الاجتماعية التي ساعدت على ظهور هذه التطورات، ومن ضمنها العزلة الاجتماعية، وانهيار دور الأسرة البيولوجية، وتغيير القيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة. وأعرب عن قلقه من تركيز الدول، في القرن الواحد والعشرين، على تطوير الأسلحة والمعدات العسكرية، وانتشار أسلحة الدمار الشامل.

****

ونادى بضرورة «كبح جماح» الرأسمالية المطلقة، وحتمية التدخل الحكومي (لصالح الجماعة) حماية للمحتاجين. وتعتبره الصحافة الصينية واحدا من أهم 50 خبيراً أجنبياً قدموا للصين خبرتهم واستشاراتهم. وتنبأ توفلر، عام 1987م، بانهيار الاتحاد السوفييتي، الذى انهار بالفعل بعد ثلاث سنوات. كما تنبأ بانهيار الولايات المتحدة الأمريكية «بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بـ25 سنة»...! أي عام 2015م. ولكن ذلك لم يحدث، ولا يوجد ما يشير إلى أنه قد يحدث قريبا. أما زوال الاتحاد السوفييتي، فقد توقعه عدة علماء سياسة، باعتبار قيام ذلك الاتحاد على الاستبداد، الذي لا يدوم على المدى الطويل.

ويرى توفلر أن «الأمي» في هذا القرن ليس من لا يجيد القراءة والكتابة، بل ذلك الذى ليس لديه قابلية تعلم الشيء، بعد مسح ما تعلمه سابقا، ثم تعلمه من جديد. وفى كتابه «الموجة الثالثة»، يقسم المجتمع البشري إلى ثلاثة أقسام، أو ما يسميه بـ«الموجات». فكل موجة تزيح تكوين وطبيعة المجتمعات والثقافات السابقة عليها، ثم تتصدر هي المشهد؛ الموجة الأولى هي مجتمع ما بعد الثورة الزراعية، الذي أزاح مجتمع الصيد. والموجة الثانية هي مجتمع الثورة الصناعية، وبدأت في أواخر القرن السابع عشر، واستمرت حتى أواسط القرن العشرين.

أما الموجة الثالثة، التي يعيشها العالم الآن، فهي عبارة عن بعض مخلفات الموجة الثانية، زائدا مكون الموجة الثالثة، وهو: تفكك الأسر النووية، نظام التعليم الإلزامي، والإنتاج الضخم، والاستهلاك الكبير. ثم يضاف إلى كل ذلك: ثورة المعلومات والتقدم التقني الهائل. ورغم أن مكونات الموجة الثانية ما زالت سائدة في بعض بقاع العالم (النامي) فإن الموجة الثالثة اكتسحت كل العالم المتقدم، ومعظم العالم «الساعي للتقدم». وأزاحت ثقافة الموجة الثانية، وأتت بثقافة جديدة، سمتها السرعة، وتدفق المعلومات، وكونها أكثر تهذيبا وديمقراطية.

لم يقل توفلر بنهاية التاريخ، كما فعل فوكوياما. بل يبدو أن «موجاته» مستمرة... ولا ندري متى تأتي «الموجة الرابعة». والرجل انتقد رأسمالية اليوم، وطالب بتعديلها، وإدخال تحسينات على الديمقراطية. ويبدو أنه «هيجلي» النزعة... أي أنه يؤمن باستمرار تطور العالم، وتغيره الحتمي المتواصل، من حال إلى حال.

كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com