إشكالية الانتماء عقدة مزمنة تحكم سلوك الكثير من أبناء المنطقة تجاه أنفسهم والآخر والوطن. ولا يستثنى من ذلك إلا القليل. ولعل ضبابية الإجابة على سؤال بحجم: أي الانتماءات يأتي أولاً؟ كانت وما تزال المعضلة الأكبر أمام الكثير من الحكومات في سعيها إلى ترسيخ مفهوم الوحدة الوطنية والمواطنة، وتعزيز قيم التعايش السلمي بين مكونات المجتمع المختلفة. وفي ظل غياب التوافق على خارطة أولويات ومفاهيم وطنية واضحة، يبقى الحكم الأخلاقي والقانوني والوطني على أي سلوك عام أو خاص حكماً عشوائياً لا يبنى على أسس. مما يساهم في جعل لغة التخوين والتكفير والشعارات الطائفية، لغة طاغية في ساحات الاعتصامات أو على مواقع التواصل الاجتماعي.
فكرة الانتماء هي أحد أهم دوافع الإنسان في إشباعه لحاجته الأساسية في الحياة. فشعور الفرد بالأمان مرتبط بمعادلات المنفعة المتبادلة بينه وبين ما ينتمي له. لذا فإن الانتماء هو عامل التأثير الأبرز في الأفكار والقناعات، ودافع الإنسان نحو العمل والتضحية والمشاركة الإيجابية في أنشطة فئة انتمائه من أجل الحفاظ على وجود أعضائها واستقرارهم.
في المقابل ما تزال الحالة اللبنانية تقف نموذجاً فريداً في التعبير عن حدة الانقسام على الذات والآخر بلا حدود. فالمفاهيم الاجتماعية بين المكونات اللبنانية ليست متجانسة، بل ولا يشبه بعضها بعضاً من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق. الجميع يتفقون على الشكل، ولكنهم يختلفون على مضمون الانتماء دينياً كان أو طائفياً أوعرقياً أو حزبياً. الأمر الذي طالما أسقط آليات التفاهم ومسوداته وفتح البلد أمام رياح التدخلات الخارجية بلا شروط. فذابت الدولة وغرق المجتمع في تفاصيله اليومية من انتشار بطالة إلى ضياع مدخرات وانهيار عملة وغلاء فاحش مروراً بضياع فرص سياسية واقتصادية كانت بمثابة مشاريع إنقاذ أكثر واقعية من السلاح خارج إطار الدولة.
بيروت التي ظلت واقفة طويلاً على حافة الهاوية، بدت اليوم أكثر ترنحاً. وبات الناس أكثر حبساً لأنفاسهم خوفاً من عودة الشارع لأيامه الخوالي حين تحولت أزقتها إلى مستنقع للدماء خلال حربها الأهلية. فالمتظاهرون الغاضبون من تراكمات الماضي، ينتشرون في كل مكان بعد أن طفح الكيل بهم من تردي الأوضاع العامة. عقود من فوضى المحاصصة الطائفية، وشعارات ضخمة تعيد تشكيل لبنان الوطن وفقاً للانتماءات الثانوية لكل طرف بعيداً عن الاعتراف بالآخر الشريك.
بينما تستمر القوى السياسية والحكومة بالتغريد خارج سرب الحلول والإصلاح مراهنين على قدرتهم في إبعاد الناس عن جوهر قضيتهم ومعاناتهم بالتسويف والمماطلة تارة، وبشغلهم بأولويات ضيقة وطروحات نخبوية حول الانتماء تارة أخرى. حتى أصبح العيش خارج التفاصيل السياسية الدقيقة أمراً مستعصياً من أزمة الخبز وحتى الفراغ الدستوري مروراً بسلاح المليشيات. لذا فإن التلاعب بشكل المظاهرات وهدفها من خلال زرع من يعمل على تحطيم الممتلكات العامة والخاصة وإطلاق شياطين طائفية تحاكم التاريخ ورموزه، مخطط يهدف إلى شغل الناس عن تفكيك تحالفات الفساد المهيمن على البلد. فلا أحاديث السقيفة ولا واقعة الجمل ولا صفين ولا عين جالوت لها علاقة بما حدث على مدى عقود من الزمن. إنما هي محاولات لذر الرماد بالعيون وتعطيل ملكة التفكير والإبداع لدى الفرد.
شبح الصدام الحزبي والطائفي ما يزال ماثلاً ويتسكع بين التفاصيل، بل هو أقرب من حبل الوريد في ظل عمل منظم يهدف إلى تقويض استقرار البلد وأمنه في سبيل المشروع الإيراني. وهو ما يعيد للأذهان عبارة كمال جنبلاط حين قال: «إذا خُير أحدكم بين حزبه وضميره، فعليه أن يترك حزبه وأن يتبع ضميره، لأنّ الإنسان يمكن أن يعيش بلا حزب، لكنه لا يستطيع أن يحيا بلا ضمير».
كاتب سعودي
malekObied@
فكرة الانتماء هي أحد أهم دوافع الإنسان في إشباعه لحاجته الأساسية في الحياة. فشعور الفرد بالأمان مرتبط بمعادلات المنفعة المتبادلة بينه وبين ما ينتمي له. لذا فإن الانتماء هو عامل التأثير الأبرز في الأفكار والقناعات، ودافع الإنسان نحو العمل والتضحية والمشاركة الإيجابية في أنشطة فئة انتمائه من أجل الحفاظ على وجود أعضائها واستقرارهم.
في المقابل ما تزال الحالة اللبنانية تقف نموذجاً فريداً في التعبير عن حدة الانقسام على الذات والآخر بلا حدود. فالمفاهيم الاجتماعية بين المكونات اللبنانية ليست متجانسة، بل ولا يشبه بعضها بعضاً من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق. الجميع يتفقون على الشكل، ولكنهم يختلفون على مضمون الانتماء دينياً كان أو طائفياً أوعرقياً أو حزبياً. الأمر الذي طالما أسقط آليات التفاهم ومسوداته وفتح البلد أمام رياح التدخلات الخارجية بلا شروط. فذابت الدولة وغرق المجتمع في تفاصيله اليومية من انتشار بطالة إلى ضياع مدخرات وانهيار عملة وغلاء فاحش مروراً بضياع فرص سياسية واقتصادية كانت بمثابة مشاريع إنقاذ أكثر واقعية من السلاح خارج إطار الدولة.
بيروت التي ظلت واقفة طويلاً على حافة الهاوية، بدت اليوم أكثر ترنحاً. وبات الناس أكثر حبساً لأنفاسهم خوفاً من عودة الشارع لأيامه الخوالي حين تحولت أزقتها إلى مستنقع للدماء خلال حربها الأهلية. فالمتظاهرون الغاضبون من تراكمات الماضي، ينتشرون في كل مكان بعد أن طفح الكيل بهم من تردي الأوضاع العامة. عقود من فوضى المحاصصة الطائفية، وشعارات ضخمة تعيد تشكيل لبنان الوطن وفقاً للانتماءات الثانوية لكل طرف بعيداً عن الاعتراف بالآخر الشريك.
بينما تستمر القوى السياسية والحكومة بالتغريد خارج سرب الحلول والإصلاح مراهنين على قدرتهم في إبعاد الناس عن جوهر قضيتهم ومعاناتهم بالتسويف والمماطلة تارة، وبشغلهم بأولويات ضيقة وطروحات نخبوية حول الانتماء تارة أخرى. حتى أصبح العيش خارج التفاصيل السياسية الدقيقة أمراً مستعصياً من أزمة الخبز وحتى الفراغ الدستوري مروراً بسلاح المليشيات. لذا فإن التلاعب بشكل المظاهرات وهدفها من خلال زرع من يعمل على تحطيم الممتلكات العامة والخاصة وإطلاق شياطين طائفية تحاكم التاريخ ورموزه، مخطط يهدف إلى شغل الناس عن تفكيك تحالفات الفساد المهيمن على البلد. فلا أحاديث السقيفة ولا واقعة الجمل ولا صفين ولا عين جالوت لها علاقة بما حدث على مدى عقود من الزمن. إنما هي محاولات لذر الرماد بالعيون وتعطيل ملكة التفكير والإبداع لدى الفرد.
شبح الصدام الحزبي والطائفي ما يزال ماثلاً ويتسكع بين التفاصيل، بل هو أقرب من حبل الوريد في ظل عمل منظم يهدف إلى تقويض استقرار البلد وأمنه في سبيل المشروع الإيراني. وهو ما يعيد للأذهان عبارة كمال جنبلاط حين قال: «إذا خُير أحدكم بين حزبه وضميره، فعليه أن يترك حزبه وأن يتبع ضميره، لأنّ الإنسان يمكن أن يعيش بلا حزب، لكنه لا يستطيع أن يحيا بلا ضمير».
كاتب سعودي
malekObied@