من كان يتصور هبوط المصداقية لدى الإعلام الأمريكي إلى القاع الذي وصل إليه هذه الأيام؟ لولا وجود بعض المنابر التي حافظت على الحد الأدنى من المهنية لظن المتابع البعيد أن الولايات المتحدة تحولت إلى نسخة حديثة لجنوب أفريقيا زمن الفصل العنصري. بينما تشريعياً لم يبق على أمريكا شيء لم تفعله في التصدي للعنصرية إلا اختراع مادة طبية توحّد ألوان وجينات مواطنيها إلى لون واحد وفصيلة واحدة.
فعلت الدولة دستورياً قبل جميع دول العالم، كل ما يمكن أن يفعله مجتمع يجرّم العنصرية من تشريعات وأنظمة صارمة ومع ذلك يراها بعض «الأقليات» هناك ممن لم يُكتب له النجاح والتفوق في مجتمع تنافسي حاد، دولة عنصرية وأنها السبب في فشله وتخلفه. في المقابل استوطن الكثير من الأغنياء الأمريكان السود بعد نجاحاتهم المبهرة في الفن والأعمال وعددهم ربما يفوق جميع الأثرياء من بني جلدتهم في العالم، استوطنوا أرقى الأحياء السكنية في قلب مانهاتن في مدينة نيويورك وداخل أحياء الأغنياء والمشاهير في لوس أنجلوس واختلطوا مع غيرهم من كل عرق بل واقتحموا هوليوود كمنتجين وحصلوا على جوائز الأوسكار دون أن يتعرض أحد منهم لأي مضايقات.
هذا لا يعني بالطبع أن ما يطبق على الأرض من ممارسات فردية تخرج من وقت لآخر يعتبر مقبولاً وهذا يحدث في كل دولة ومجتمع بل وداخل حتى العائلات وليس مقتصراً ضد السود. ولا يعني أيضاً عدم مشروعية الحاجة لإعادة النظر في قواعد القبض على المشتبه بهم بواسطة البوليس الأمريكي. لكن أن تخرج المظاهرات التي تابعناها وشاهدنا تداعياتها تحت شعار «حياة السود مهمة» ثم يتكفل الإعلام، باستثناء بعض المنابر العاقلة، بدعم هذا الحراك وإطالة أمده وتجنب الحديث عن نتائجه التخريبية المتمثلة في تحطيم الممتلكات وإطلاق النار والتعديات على المارة وإحراق العلم الوطني والتشكيك في وحدة البلاد والتقليل من إنجاز رموزها في حربين عالميتين إضافة إلى حرب أهلية، فهذا مشهد يثير الاستغراب.
على أن المتابع بدقة لما يحدث هناك ربما لا يطول استغرابه عندما يلحظ أن خروج المتظاهرين هذه المرة أتى متزامناً مع سنة الانتخابات ومواقف الحزب الديموقراطي الذي لا يتردد في توظيف أي أزمة يمكنها إلحاق الضرر بالرئيس ترمب كما فعلوا في أكثر من موقف. نعم فالأزمة التي بدأت مع موت «فلويد» على يد ضابط بوليس متهور في مدينة مينيابوليس كان يمكن التعامل معها كما حدث في لوس أنجلوس سابقاً عندما تمت تبرئة رجل البوليس الذي قتل المواطن الأسود رودني كنج لكن ذلك لم يحدث.
استمرار المشهد هناك بالشكل الذي نراه يطرح سؤالاً مهماً، لماذا يتحاشى الإعلام اليساري متعدد المنابر مهمته الرئيسية المتمثلة في طرح الأسئلة الموجهة للمتظاهرين حول ماذا يريدون بالضبط؟ هذا سؤال يتم طرحه يومياً ليس داخل الولايات المتحدة فقط بل وحتى خارجها. مكاتب وقاعات تلك المحطات والصحف الكبرى تزخر بالمحللين والدراسات والبرامج الحوارية لكنك لا ترى ولا تسمع شيئاً من هذا الاستفهام.
الحقيقة أن وجود ترمب في البيت الأبيض واحتمال إعادة انتخابه دفع الحزب الديموقراطي ومعه الإعلام اليساري إلى حالات هستيرية وتوجهات لا تعترف بأي خطوط حمراء حتى لو تقاطعت مع الأمن الوطني. لعلنا نستذكر خبر تصفية الإرهابي قاسم سليماني قبل بضعة أشهر، هل توقع أحد منا أن ينحاز هذا الإعلام ضد قرار الرئيس بالخلاص من هذا المجرم؟ لكن تلك المنابر فعلت وتساءلت عن مشروعية القرار وأوشكت أن تصف سليماني بالقائد البطل. لقد قلصت الفارق بينها وبين العهر الذي تمارسه قناة «الجزيرة» القطرية إن لم تتفوق عليه، فهل بعد هذا سقوط؟
قد نتفق مع السياسيين وممارساتهم في مجتمع حر كالمجتمع الأمريكي لكن أن يتبنى الإعلام بمعظم منابره التي كنا نظن بأنها مؤسسات رصينة وكبيرة وتقف بقوة مع الحقيقة وقبل ذلك وحدة وأمن الولايات المتحدة، يتبنى الركوب في الصفوف الأولى داخل عربة هذا الهجوم الأعمى على الرئيس وعلى الكيان نفسه فهذا هو المذهل والعجيب حقاً.
على أن هذا الانحياز الفاضح واللجوء للأخبار المكذوبة طوال ساعات البث قد أيقظ الوعي لدى الشعب الأمريكي الذي اعتدنا على وصفه بالسذاجة وتصديقه لكل ما ينشر. حيث أظهرت نتائج المشاهدة التلفزيونية مؤخراً سقوط قناة «سي إن إن» إلى قاع قائمة القنوات الإخبارية الأكثر متابعة في الولايات المتحدة ومعها قناة «سي إن بي سي» بينما تصدرت قنوات «فوكس» التي تعتبر من القنوات الوطنية المحافظة على رأس القائمة. ما يقال عن مصداقية «سي إن إن» ينطبق على الصحف الكبرى ولو بدرجات متفاوتة مثل «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» ومجلات «فورين بوليسي» و«بوليتيكو» و«نيويوركر» وغيرها.
يشير عدد من الخبراء ومراكز الأبحاث هناك ممن يتابع هذا المشهد غير المسبوق، إلى قرب البدء بمراجعة شاملة وإعادة هيكلة لما حدث من انحراف في هذه المؤسسات الضخمة خصوصاً «سي إن إن» كونها تجارية وتعتمد على الإعلان. في النهاية لا بد للرأسمالية التي تضمن استمرار هذه القنوات كمؤسسات تجارية تهدف إلى الربح، أن تنتصر بعد هدوء هذا الضجيج وبعد إعلان الفائز بالانتخابات الرئاسية. عندئذٍ ستحدث كالعادة تغييرات كبيرة في قيادات هذه المؤسسات وتبعاً لذلك لا يمكن لأحد التنبؤ بمستقبل نجوم وأبطال هذه الشاشات بعد أن تلطخت سيرهم الذاتية أخلاقياً ومهنياً ببضع سنوات من الأداء المشين المختلف جداً عن وظيفة الصحافة وشرف المهنة.
كاتب سعودي
falhamid2@
فعلت الدولة دستورياً قبل جميع دول العالم، كل ما يمكن أن يفعله مجتمع يجرّم العنصرية من تشريعات وأنظمة صارمة ومع ذلك يراها بعض «الأقليات» هناك ممن لم يُكتب له النجاح والتفوق في مجتمع تنافسي حاد، دولة عنصرية وأنها السبب في فشله وتخلفه. في المقابل استوطن الكثير من الأغنياء الأمريكان السود بعد نجاحاتهم المبهرة في الفن والأعمال وعددهم ربما يفوق جميع الأثرياء من بني جلدتهم في العالم، استوطنوا أرقى الأحياء السكنية في قلب مانهاتن في مدينة نيويورك وداخل أحياء الأغنياء والمشاهير في لوس أنجلوس واختلطوا مع غيرهم من كل عرق بل واقتحموا هوليوود كمنتجين وحصلوا على جوائز الأوسكار دون أن يتعرض أحد منهم لأي مضايقات.
هذا لا يعني بالطبع أن ما يطبق على الأرض من ممارسات فردية تخرج من وقت لآخر يعتبر مقبولاً وهذا يحدث في كل دولة ومجتمع بل وداخل حتى العائلات وليس مقتصراً ضد السود. ولا يعني أيضاً عدم مشروعية الحاجة لإعادة النظر في قواعد القبض على المشتبه بهم بواسطة البوليس الأمريكي. لكن أن تخرج المظاهرات التي تابعناها وشاهدنا تداعياتها تحت شعار «حياة السود مهمة» ثم يتكفل الإعلام، باستثناء بعض المنابر العاقلة، بدعم هذا الحراك وإطالة أمده وتجنب الحديث عن نتائجه التخريبية المتمثلة في تحطيم الممتلكات وإطلاق النار والتعديات على المارة وإحراق العلم الوطني والتشكيك في وحدة البلاد والتقليل من إنجاز رموزها في حربين عالميتين إضافة إلى حرب أهلية، فهذا مشهد يثير الاستغراب.
على أن المتابع بدقة لما يحدث هناك ربما لا يطول استغرابه عندما يلحظ أن خروج المتظاهرين هذه المرة أتى متزامناً مع سنة الانتخابات ومواقف الحزب الديموقراطي الذي لا يتردد في توظيف أي أزمة يمكنها إلحاق الضرر بالرئيس ترمب كما فعلوا في أكثر من موقف. نعم فالأزمة التي بدأت مع موت «فلويد» على يد ضابط بوليس متهور في مدينة مينيابوليس كان يمكن التعامل معها كما حدث في لوس أنجلوس سابقاً عندما تمت تبرئة رجل البوليس الذي قتل المواطن الأسود رودني كنج لكن ذلك لم يحدث.
استمرار المشهد هناك بالشكل الذي نراه يطرح سؤالاً مهماً، لماذا يتحاشى الإعلام اليساري متعدد المنابر مهمته الرئيسية المتمثلة في طرح الأسئلة الموجهة للمتظاهرين حول ماذا يريدون بالضبط؟ هذا سؤال يتم طرحه يومياً ليس داخل الولايات المتحدة فقط بل وحتى خارجها. مكاتب وقاعات تلك المحطات والصحف الكبرى تزخر بالمحللين والدراسات والبرامج الحوارية لكنك لا ترى ولا تسمع شيئاً من هذا الاستفهام.
الحقيقة أن وجود ترمب في البيت الأبيض واحتمال إعادة انتخابه دفع الحزب الديموقراطي ومعه الإعلام اليساري إلى حالات هستيرية وتوجهات لا تعترف بأي خطوط حمراء حتى لو تقاطعت مع الأمن الوطني. لعلنا نستذكر خبر تصفية الإرهابي قاسم سليماني قبل بضعة أشهر، هل توقع أحد منا أن ينحاز هذا الإعلام ضد قرار الرئيس بالخلاص من هذا المجرم؟ لكن تلك المنابر فعلت وتساءلت عن مشروعية القرار وأوشكت أن تصف سليماني بالقائد البطل. لقد قلصت الفارق بينها وبين العهر الذي تمارسه قناة «الجزيرة» القطرية إن لم تتفوق عليه، فهل بعد هذا سقوط؟
قد نتفق مع السياسيين وممارساتهم في مجتمع حر كالمجتمع الأمريكي لكن أن يتبنى الإعلام بمعظم منابره التي كنا نظن بأنها مؤسسات رصينة وكبيرة وتقف بقوة مع الحقيقة وقبل ذلك وحدة وأمن الولايات المتحدة، يتبنى الركوب في الصفوف الأولى داخل عربة هذا الهجوم الأعمى على الرئيس وعلى الكيان نفسه فهذا هو المذهل والعجيب حقاً.
على أن هذا الانحياز الفاضح واللجوء للأخبار المكذوبة طوال ساعات البث قد أيقظ الوعي لدى الشعب الأمريكي الذي اعتدنا على وصفه بالسذاجة وتصديقه لكل ما ينشر. حيث أظهرت نتائج المشاهدة التلفزيونية مؤخراً سقوط قناة «سي إن إن» إلى قاع قائمة القنوات الإخبارية الأكثر متابعة في الولايات المتحدة ومعها قناة «سي إن بي سي» بينما تصدرت قنوات «فوكس» التي تعتبر من القنوات الوطنية المحافظة على رأس القائمة. ما يقال عن مصداقية «سي إن إن» ينطبق على الصحف الكبرى ولو بدرجات متفاوتة مثل «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» ومجلات «فورين بوليسي» و«بوليتيكو» و«نيويوركر» وغيرها.
يشير عدد من الخبراء ومراكز الأبحاث هناك ممن يتابع هذا المشهد غير المسبوق، إلى قرب البدء بمراجعة شاملة وإعادة هيكلة لما حدث من انحراف في هذه المؤسسات الضخمة خصوصاً «سي إن إن» كونها تجارية وتعتمد على الإعلان. في النهاية لا بد للرأسمالية التي تضمن استمرار هذه القنوات كمؤسسات تجارية تهدف إلى الربح، أن تنتصر بعد هدوء هذا الضجيج وبعد إعلان الفائز بالانتخابات الرئاسية. عندئذٍ ستحدث كالعادة تغييرات كبيرة في قيادات هذه المؤسسات وتبعاً لذلك لا يمكن لأحد التنبؤ بمستقبل نجوم وأبطال هذه الشاشات بعد أن تلطخت سيرهم الذاتية أخلاقياً ومهنياً ببضع سنوات من الأداء المشين المختلف جداً عن وظيفة الصحافة وشرف المهنة.
كاتب سعودي
falhamid2@