-A +A
صدقة يحيى فاضل
إن مفهوم «السياسة»، على أهميته القصوى والحاسمة، مُساء فهمه في أغلب عالمنا العربي. لاحظت ذلك بحكم تخصصي في دراسة ومتابعة هذه الظاهرة. فما زالت السياسة أمرا غير مستحب، ومخيفا، وأمست كثير من بلاد العرب تعاني من تدن «خطير» في مدى الوعي السياسي لمواطنيها. ولا يتجلى هذا التدني في الجهل السياسي وحسب، بل يتعداه لإساءة فهم المصطلحات والمفاهيم السياسية السائدة عالميا. وهنا تكمن مأساة كبرى، لا يحس بوجودها إلا قلة من المثقفين العرب. فلبعض العرب تفسيرات أقل ما يقال عنها إنها غريبة، للمفاهيم والنظريات السياسية الكبرى. وقد كتبت سابقا في هذا الموضوع. ولا أرى بأسا في معاودة الكتابة فيه، خاصة أنني أنوي طرح مواضيع تحتاج لهذه التوطئة.

يؤكد «التعريف الشامل» لـ«السياسة»، أن السياسة في دم كل إنسان راشد وعاقل. حيث تعرف «السياسة» بأنها: الأهداف التي يسعى «طرف» معين لتحقيقها، تجاه طرف آخر، والوسائل التي يتبعها.... لتحقيق تلك الأهداف.


وهذا يعني: أن السياسة هي – بصفة عامة – سلوك إنساني عام (إيجابي و/‏ أو سلبي) لطرف ( Party) تجاه آخر، أو آخرين. وهذا الطرف هو – في نهاية الأمر – إنسان... سواء تجسد في صورته الفردية، أو في صورة جماعية (منظمة أو غير منظمة، دائمة أو مؤقتة... إلخ). بمعنى: أن «الإنسان» يمكن أن يظهر في هيئة منظمة، أو مجموعة، أو حكومة (دولة)... إلخ. فالإنسان يمكن النظر إليه كفرد، أو حزب أو جماعة، أو حكومة، أو سلطة بعينها.... إلخ. وهذا ما يجعل «السياسة» بالإنسان ومن الإنسان وإليه.... فهي تبدأ بالإنسان، وتنتهي به. إنها «سلوك» هذا المخلوق العام تجاه الآخرين، سواء كان هذا السلوك طيبا أم سيئا، إيجابيا أم سلبيا.

****

ويخطئ من يحاول «فصل» أو عزل السلوك السياسي تماما عن السلوك العام للإنسان فعليا، وإن كان يمكن عزله تصورا. وكذلك من يظن أنه لا يتعامل بالسياسة (بمعناها الواسع) على مدار الساعة... فسواء أقر الإنسان بذلك أم أنكر، علم أو لم يعلم، فإنه، طالما له «سلوك» هادف تجاه آخرين حوله، فإن له «سياسة» تجاه هؤلاء الآخرين، كما أن للآخرين سياسة نحوه. وهؤلاء الآخرون يمكن أن يكونوا أقارب أو أصدقاء أو معارف، أو مجموعات أو منظمات أو حكومات... إلخ.

صحيح، لقد تم «حصر» السياسة -في المعنى المتداول والمتخصص- في سلوكيات حكومات الدول... ليصبح تعريف «السياسة» المتخصص (أو الضيق) القول بأنها: الأهداف التي تسعى حكومات الدول لتحقيقها، داخل وخارج حدودها، والوسائل التي تتبعها لتحقيق تلك الأهداف. ولكن المعنى العام للسياسة يغطي معظم سلوكيات الإنسان العامة. وتبعا لذلك، فإن كل إنسان راشد عاقل، يمارس – بطبعه وبالسليقة – السياسة... طالما كان مستيقظا ومتعاملا مع آخرين...

****

وقد مكن تبلور واستتباب هذه الحقيقة الفطرية علماء النفس والسياسة من «تنظير» كثير من جوانب السلوك السياسي للإنسان. وانطلاقا من كون كثير مما «يصدق» على الإنسان الفرد يصدق (وينطبق إلى حد كبير) على الإنسان المجموعة، أو التنظيم، أو المؤسسة، أو الدولة، تم استنتاج الكثير من النظريات العامة، ذات المصداقية المعقولة.

من ذلك (مثلا): أن الإنسان (العاقل الراشد) غالبا لا يتخذ قرارا إلا إذا أيقن أن مكاسبه من اتخاذ ذلك القرار (السلوك) وتبنيه، تفوق ما قد يكون من خسائر، بالنسبة له، ولمن يتبعه. وهذا صحيح بالنسبة للسياسي ورجل الدولة، أو المسؤول... كما هو صحيح بالنسبة لأي إنسان، وفي أي صورة تجسد. بمعنى: أن «السياسي» يفترض أن لا يتخذ قرارا إلا إذا تأكد (تماما) أن المكاسب التي ستتحقق أكبر من الخسائر التي قد تتكبدها الجهة التي اتخذت القرار لها وباسمها.

****

فمهمة «السياسي»، ومسؤوليته، مضاعفة أضعافا. إذ عندما يتخذ الفرد قرارا (سلوكا) فإن ما قد يجنيه من مكاسب تعود عليه بصفة أساسية. كما أن الخسائر، التي قد تنجم عن ذلك السلوك، تلحق به وحده، أو به وبمن حوله من أهل ومعارف. أما السياسي، فإن ما ينتج عن قراراته من مكاسب تعود على مجتمعه (الذي غالبا ما يعد بالملايين). كما أن «الخسائر» تلحق بذلك المجتمع ككل، ولا تقتصر على السياسي/‏ المسؤول متخذ القرار. لذا، كان من أهم خصائص السياسي الناجح أن تكون نتيجة قراراته (سلوكه) المكاسب منها أكثر من الخسائر. وهذا ما يوجب عليه أن يحكم (بمنتهى الدقة والمنطق) ميزان «التكلفة/‏ المنفعة» (Cost /‏ Benefit) أو جردة المكسب / ‏الخسارة.

وكل ذلك يوجب على السياسي أن يكون صادقا وحاذقا... يقدم المصلحة العامة على كل ما عداها. فلا بد أن تكون المصلحة العامة غايته الأولى والأخيرة، وأن يتجنب الانحرافات والأخطاء... كي لا يلحق أذى بآلاف، وربما ملايين، ممن يخدمهم. وعليه أن يتذكر دائما أن هذا الميزان قد أصبح المعيار الأساسي والأول، الذي يقاس بناء عليه أداؤه، من قبل ناخبيه، أو أنصاره.