-A +A
عبدالحميد بن راشد بن خنين
مقتضى التلازم بين الشكل والموضوع، مسلمة قديمة، نؤمن بها، نراها، نمارسها، نقبلها، دون حجة أو برهان. لأنها من الثابت المنطقي العام.

عليه، فوحدة تنظيم أي شيء، تطلب وحدة محتواه، كما أن وحدة المضمون تفرض وحدة الشكل. ولئن كانت غالب الدول تأخذ بمبدأ وحدة التنظيم القضائي، فإن منشأ ذلك هو وحدة المحتوى الحقوقي، من حيث المصدر والمقصد للممارسة القضائية. فالأصل الدائم هو وجود هيكل قضائي واحد، تعتلي بنيانه محكمة واحدة عليا، هذا العلو يمكنها من بسط سيادتها الحقوقية على عدالة النصوص المطبقة، وسلامة إنزالها على الوقائع القضائية المختلفة.


إلا أنه خروجاً على هذا الأصل، تعتمد بعض النظم، مبدأ ازدواج السلطة القضائية، ومنها النظام القضائي السعودي، الذي كرس هذه الازدواجية في تنظيمه الأخير الصادر عام 1428هـ، مؤكداً وجود هرمين قضائيين، يستقل كل مُكون بنظامه وتنظيمه.

لم يكن حصول ذلك إلا لاعتبارات مفاهمية ثقافية ملتبسة، أفضت - حينئذ - إلى تحرج الجهاز القضائي المحتشم من الاحتكام إلى القواعد النظامية، لا التنظيمية، الموضوعة من المخزن الاجتهادي لولي الأمر، عزز ذلك إرادة الدولة - آنذاك - في إقصاء المنازعات التي تكون الدولة طرفاً فيها من نظر القضاء العادي، وإخراجها من ولايته العامة.

وقد تزامن مع هذا الوجود المزدوج، ظهور جدل مستمر في المجتمع الحقوقي السعودي، محور تساؤلاته: ما مدى نفعية هذا الازدواج القضائي؟ الذي قضى بصيرورته إلى ازدواج حقوقي حادث، فضلاً عن صحة أساسه ابتداءً؟ وسلامة تكونه بناءً؟ ثم هل من شأن هذه الثنائية أن تعزز من رصانة النظام القضائي السعودي؟ أو تحفر مولدات اجتهاده؟ فالنظام الحقوقي السعودي يقوم على وحدة المصدر الحقوقي الحاكم على مكوناته، كذلك فإن معايير وزن المصالح الحقوقية واحدة، أيّاً وكيف كانت متنازعة.

إلا أن الناظر في المشهد السعودي المتقدم بجسارة صوب مستهدفات رؤيته (2030) البينات، وتحولاتها السابقات، يتأمل بشغف الراصد، توحيداً للمكون القضائي، يزيل عنه هذا الحادث البدعي، الطارئ. لاسيما أن هذه الازدواجية لم تعد محلاً لليقين التام في موطنها الأول. تعبر عنه تساؤلات فقهية متقدمة في الوسط القانوني الفرنسي إزاء هذه الثنائية والتشكيك في نفعيتها؟

وسيكون من حسن قيام هذا التوحيد، أن يكون من الممكن استدعاء ديوان المظالم للإفراج عنه، الذي انحصر دوره في القيام بوظيفة القاضي المقيد بإجراءات التقاضي وأغلاله. ليعود إلى عرينه المكين، في كنف رعاية المؤسسة الملكية، فاعلاً جسوراً يصون الأمن الحقوقي من عطب قضائي محتمل، أو تعثر عدلي واقع. بما يملكه من أدوات نافذة ومكنات استثنائية، قادرة على التوفيق بين مشروعية نص وعدالة حق. أو صياغة بدائل مصالحة بين أصحاب إرادات متنازعة.

وهذا الدور الاستثنائي المنتظر لديوان المظالم ليس بدعاً جديداً، بل هو نهج كائن في الطبقات المنيرة من تراثنا الحقوقي السلفي، وأسلوب عصري قائم في بعض النظم المتقدمة.

وفي ظل هذا السياق، ربما يرد لذهن المتأمل تساؤل جد مشروع نحو مطلب عزيز؛ يتمثل في تكريس وحدة السلطة العدلية واستقلالها، برفع الوصاية الإدارية والمالية عنها، لتتولى بذاتها تدبير هذا الشأن وتسييره، دون حاجة لخادمية وزارة العدل، التي تعرض بسلطانها المدير، نفوذاً مؤثراً في ترتيبها وتنظيمها.

ولئن كان هذا المقترح يبدو غير صواب، فإن مشروعيته تجد أساسها، في تاريخ التنظيم القضائي قبل تحول رئاسة القضاء إلى وزارة، علاوة على أن القضاء الإداري المتمثل حالياً في ديوان المظالم يتمتع بمقدار من مثل هذا الاستقلال. عندئذ، نكون أمام سلطة عدلية شاملة لكل مجالس التقاضي باختلاف تخصصاتها، مستقلة في تدبير شؤونها، وتسيير أمورها بامتلاكها السمو الدستوري السائر في فلك المؤسسة الملكية.

كل ذلك كان استنهاضاً جديداً لمقترحات ظلت لا تعمل... إلا أن وحي رؤية 2030 يكاد يمطر سحباً كانت.