-A +A
نجيب يماني
لا تكاد أيّ صحيفة يومية، أو مجلّة دورية أو محطة فضائية تخلو من خبر يحمل في طياته نصيحة طبّية، أو تحذيراً صحيّاً، يستهدف قطاعات المجتمع المختلفة، وهي غاية نبيلة، وصنيع محمود؛ لو لا أن تلك النصائح والتحذيرات غالباً ما تأتي «مُجهلة» المصدر، على غرار: «أوصى فريق من العلماء..»، أو «خلص بحث في إحدى الجامعات إلى..»، أو «حذرت منظمة صحية من...»؛ إلى آخر هذه الإسنادات التي لا يمكن الوصول يقيناً إلى مصدرها.

بما يعني بداهة عدم الوثوق بما خرجت به، خاصة أن بعض هذه النصائح والإرشادات الصحية والتحذيرات الطبية يبدو غريباً في ما توصل إليه من نتائج.


فهناك مثلاً خبر مفاده أن بحثاً جامعياً انتهى إلى أن المداومة على شرب كوب من القهوة صباحاً يعرّض شاربه إلى الإصابة بمرض السرطان وأن تناول الموز صباحاً يؤدي إلى أضرار جسيمة بجسم الإنسان وأن شرب الحليب يومياً يؤدي إلى تنشيط الخلايا السرطانية ويؤذي البشرة وأن تناول عصير البرتقال يسبب التهاب المعدة والأمعاء وكثير مما اعتدنا على أكله وشربه.

مع أخبار أخرى حملت في طياتها النذير بالعوارض الصحية الفتاكة، جراء عادات غذائية يمارسها الناس بشكل طبيعي، ولزمن ليس بالقصير، ولم ينتهِ بهم الحال إلى ما تشير إلى النصيحة المزعومة أو الإرشاد الطبي المُجهل المصدر..

ولا أنفي احتمال صواب مثل هذه الأبحاث أو الدراسات، فهذا أمر جائز وممكن، ولكن أرى من الضروري واللازم أن يصدر عن جهة مسؤولة، وذات اختصاص في هذا المجال، منعاً لمثل هذه الفوضى، وأخصّ بالإشارة هنا الهيئة العامة للغذاء والدواء، فرسالتها هي «حماية المجتمع من خلال تشريعات ومنظومة رقابية فعّالة لضمان سلامة الغذاء والدواء والأجهزة الطبية ومنتجات التجميل والمبيدات والأعلاف».

فبهذا الاختصاص وتلك الرسالة تصبح صاحبة الحق الأصيل والأوّل في القيام بواجب المراقبة وإصدار الإرشادات الصحية، والتحذيرات الطبية حول أي منتج غذائي أو دوائي له تأثيرات سالبة على صحّة الناس، وهو عين ما تقوم به حقّاً مشكورة، حيث نقرأ أخباراً متفرقة تحذّر من منتجات بعينها، مقدمة الدليل المبرهن على ذلك، وزيارة عابرة لموقعها على الإنترنت يكشف حجم ما تقوم به.

ومن ذلك مثلاً ما يقوم به قطاع الدواء بالهيئة متمثلاً بإدارة منتجات التجميل بتحليل العديد من منتجات التجميل بهدف الوقوف على مأمونيتها ومطابقتها للمواصفات الفنية المنصوص عليها، كما تصدر الهيئة العديد من التحذيرات والتقارير بهدف توعية مستهلكي منتجات التجميل ونشرها على صفحاتها الإلكترونية إلى جانب نشرها في الصحف المحلية والوسائل الإعلامية الأخرى.

إن هذا العمل الذي تقوم به الهيئة العامة للغذاء والدواء يتطلّب جهداً إعلاميّاً مضاعفاً، فبدلاً من نشر الأخبار ذات المصدر المجهول؛ فموقع الهيئة العامة للغذاء والدواء يكتظ بالتنبيهات والتحذيرات من منتجات عديدة تجد «راحتها» في البقالات والمحال التجارية، بما يشكّل خطراً حقيقياً على صحة الناس، فالواجب أن يسلّط الضوء عليها بكثافة، حتى تتسع دائرة المعرفة بخطرها.

وأقترح على الهيئة العامة للغذاء والدواء أن تكثف من حملاتها التعريفية والتوعوية تستهدف بها فئات المجتمع المختلفة في الأماكن العامة، كما أقترح استغلال اللافتات المضيئة في تقاطعات الطرق لنشر رسائلها التوعوية، لتصل لأكبر قطاع ممكن في المجتمع، وهو دور يتكامل مع وسائل الإعلام في الاعتماد على ما هو موثوق ومثبت لنشره وتوعية المجتمع صحياً من خلاله.

المهم أن على كل القنوات الإعلامية أن تتحرى الدقّة، وتستشعر المسؤولية حيال نشر مثل هذه التحذيرات الطبية والإرشادات الصحية التي لا تستند إلى مرجعية علمية موثوق فيها، فهذه الإرشادات والنصائح الطبية، هي -بصورة أو أخرى- فتاوى، تتطلّب مرجعية، وإلا كانت ضرباً من الفوضى.

قياساً على ما ابتلينا به من انتشار الفتاوى الدينية على الفضائيات بما شكّل «تلوثاً» في الفضاء، وحالة من الانفلات، بخاصة وأن بعض تلك الفتاوى لم تتورّع في إباحة النفوس، وجواز إزهاق الأرواح بلا مرجعية من نص شرعي، فوجدت لها عند الأغرار، والسذج، والمنفعلين بالدين على عماء وبصيرة مطموسة، مساحة من قبول، فكانت المحصلة كارثة حقيقية ابتلينا بها.. والحال عندي لا يختلف كثيراً في مسألة نشر «النصائح/‏ الفتاوى الصحية»، فنشرها دون مرجعية علمية، مع احتمال خطئها، طالما أنها غير منسوبة إلى مصدر يمكن أن يُسأل أو يُستفهم، يجعل من نشرها بين الناس سوقاً لهم إلى مهالك صحية، مثل ما نراه في بعض الفضائيات التي تروّج للعلاج بالأعشاب، بادعاء علاج كافة الأمراض المستعصية، أو أولئك الدعاة الذين يرقون خزانات مياه المنازل ويدعون القدرة على شفاء الأمراض بزيت زيتون وزمزم ومع هذا التسطيح المضحك، والعرض المبتذل، تجد من يُقبل عليها، ويتصل طالباً الرشد والنصيحة، وهنا مكمن الخطر، وموطن الفجيعة.

إننا بحاجة ماسة إلى ضبط مثل هذا الانفلات في نشر الأخبار المتعلقة بالإرشادات الصحية، والنصائح الطبية، وأن يكون التوجيه صارماً بعدم نشر مثل هذه الترهات ما لم يكن من جهة الاختصاص المأذونة، (خاصة بعد أن فقدنا الثقة بمنظمة الصحة العالمية إبان ازمة كورونا) أسوة بغيرها من الأخبار التي تؤخذ من مظانها، ولا تنسب إلى مجهول سائب.