-A +A
عبدالله الرشيد
في لقاء جمع أحد المستشرقين الفرنسيين مع وزير من بلاده الذي تحدث معه عن العلاقات بين الفرنسيين والعرب، يقول المستشرق: «لقد صعقت من هذا الوزير وهو يتحدث بطريقة تثبت جهله المطلق بماضي العرب العظيم، فأحسست بشيء من القلق، وأنا أشاهد نخبة المجتمع تغرق في مثل هذا الجهل المخزي، ولا تفقه شيئاً من التاريخ». إن هذا الجهل بتاريخ العرب، والنظرة المشوهة المختزلة لم تعد مشكلة خاصة بأبناء المجتمعات الأوروبية، بل تسربت إلى أجيال جديدة في المجتمعات العربية التي فقدت صلتها بتاريخها العربي، أو بدأت تتبرم منه، وتنفر عنه نتيجة لعوامل وأسباب كثيرة من أهمها التخلف، والحروب والصراعات الداخلية، والتجارب المريرة، والنماذج الإرهابية التي قدمتها الحركات الإسلامية التي جهدت على مدى عقود طويلة في ربط نفسها بالتاريخ الإسلامي، وتحويله كنموذج تستغله لتشريع أفعالها وسلوكها.

حاولوا جاهدين اختطاف تاريخ الإسلام والعرب، فصوروا للناس أن تاريخ الحضارة الإسلامية هو تجسيد لمشروعهم الحركي الأصولي، وأنهم هم الامتداد المثالي لهذا التاريخ.. وبالطبع كل هذا زيف وادعاء، فالتاريخ أكبر منهم، والتراث أوسع من أن تحتكره طائفة، وإن كان لأمثالهم أسلاف في تاريخ الإسلام، فإنها جماعات التعصب والتزمت الديني التي كانت أحد عوامل انحطاط وتقهقر الحضارة الإسلامية.


على مدى عقود طويلة، لم يكن الإسلاميون معنيين بالقراءة الحقيقية للتراث، أو التبصر المعرفي العلمي في تاريخ وآداب العرب، كل ما يهمهم تطويع هذه التراث ليكون أداة ووسيلة لترويج أفكارهم، فصاغوا قصص التاريخ في قوالب وعظية مرتبطة بالحلال والحرام، والعقاب والثواب، وصبغوا أحداث التاريخ بصبغة دينية متكلفة، فحاولوا حجب مظاهر التسامح والانفتاح، وسعوا جاهدين إلى إخفاء مساحة التنوع، فأسقطوا نظرتهم الفقهية الضيقة على حركة التاريخ، وقالوا هكذا كان مجتمع الأسلاف، فظن البعض عن جهل أو كسل أن الحركات الأصولية المتشددة تمثل التراث الإسلامي، لكن أقرب قراءة بسيطة للتاريخ تكشف أن هذه الفئة أبعد ما تكون عن روح الحضارة الإسلامية، بل لو عاشوا في زمانها لقضى عليهم السلطان وشردهم وفرق جمعهم.

لقد بلغ التسامح العربي في عصوره المزدهرة إلى درجة لم نستطع أن نصل إليها، وتجلى التعايش داخل البلد المسلم مع الطوائف الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم إلى مدى لا يتصور أن تستوعبه أو تتقبله مجتمعاتنا العربية المعاصرة، فالسفراء والوزراء والعلماء من اليهود والنصارى لهم حظوة وحضور في بلاط الدولة، وبيعهم وكنائسهم مصانة محترمة، بل بلغ الأمر مداه إلى درجة عجيبة من حرية التعبير في مشهد يصفه المفكر السوري محمد كرد علي في كتابه «غابر الأندلس وحاضرها»، في فصل بعنوان «تسامح العرب»، يقول: «خلفاء الأندلس كانوا في مستوى من التسامح لم يسبق له نظير في عصورهم عند الأمم الأخرى، فقد جاء من خلفائهم من كانوا يبيحون لدعاة النصرانية أن ينشروا دينهم أحراراً، وبلغت الحال ببعض المتحمسين منهم أن كانوا يقفون على أبواب الجوامع؛ ليتقصدوا المسلمين بالدعوة إلى المسيحية».

لكننا لم نرث هذه النماذج المستنيرة، وإنما ورثنا ما تبقى من عصور الجمود والتقهقر في تاريخ المسلمين، بعد قرون من غياب العرب عن السلطة وسيطرة العناصر والقوميات الأخرى، من البويهيين والسلاجقة، والمماليك والترك العثمانيين، فوصلتنا الصورة مشوهة ملبدة مليئة بالعناصر الدخيلة التي أعاقتنا من أن ننظر بعين البصيرة إلى أصالة المنجز العربي، وعظمة الحضارة الإسلامية في أروع وأبهى تجلياتها حين كانت أهم حلقة في تاريخ الإنسانية، ربطت العالم شرقه بغربه، وضخت الروح في علوم الهند والفرس واليونان، وأضافت فوق ذلك الكثير من التحولات الكبرى في تاريخ العلم، ونهضت بعلوم الجبر، والكيمياء، والرياضيات، والطب، والفلك.

كما قادت النهضة التاريخية المذهلة في اللغة العربية إلى ازدهار علوم الشعر والأدب، والبلاغة والموسيقى، ولم ينحصر تأثير النهوض العظيم للغة العربية على الناطقين بها فحسب، بل إن هذه الروح العارمة غذت بعنفوانها القوميات والثقافات واللغات الأخرى، بشهادة علماء أبنائها، حيث ساهمت حرارة اللغة العربية في ازدهار اللغة الفارسية وأدبها، كما أنها قادت علماء اللغة العبرية من اليهود إلى اكتشاف لغتهم بعد أن تبحروا في علوم العربية.

وصف ذلك أبو الريحان البيروني وهو فارسي الأصل، حيث يقول: «وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم، فازدانت وحلت إلى الأفئدة، وسرت محاسن اللغة منها إلى الشرايين والأوردة»، ويتحدث عن لغته الفارسية وأن الكتابة بها ثقيلة ذابلة لا تقارن بالعربية: «وسيعرف مصداق قولي هذا من تأمل كتاب علم نقل إلى الفارسية، كيف ذهب رونقه، وكُسف باله، وأسود وجهه، وزال الانتفاع به، إذ لا تصلح هذه اللغة إلا للأخبار الكسروية، والأسمار الليلية».

إن الحديث عن الأثر العظيم الذي صنعته الحضارة الإسلامية في حاضر الإنسانية اليوم طويل جداً، ومهما ظن المرء أنه قد ألم بشيء منه، إلا ويتفاجأ ببحور من الآثار المترامية في كل بقاع العالم. استطاعت حضارة المسلمين بلغتها العربية وآدابها وعلومها أن تطبع ببصماتها الحضارية، وجمالياتها في ثقافات الأمم والشعوب، في عاداتهم، وأكلهم، وشربهم، في معمارهم، ونقشهم، وفنهم، في الموسيقى والشعر واللحن، وأمثال لغتهم.. لن يكون هذا الكلام مبالغة، فالعلم الحديث يكشف كل يوم عن قصة جديدة، وحكاية فريدة تؤكد هذا التأثير الحضاري الممتد العجيب.

ALRrsheed@