لم تكن التداعيات السياسية المدوية التي ألمت بلبنان بأقل من مثيلتها الناتجة عن الانفجار الهائل الذي أصاب مرفأ بيروت، وأسفر حتى كتابة هذه اللحظة عن موت ما يقرب من 200 شخص وإصابة نحو 6 آلاف آخرين، إلا أن الزلزال السياسي الذي ضرب هيكل البنية الفوقية الهش في ذلك البلد الاستثنائي ذي الطبيعة الخلابة والمتفردة ربما كان الأعنف والأقوى من نوعه، على الرغم من مرور لبنان بالكثير من الأزمات العاصفة والكوارث السياسية على مدار تاريخها الحديث.
لم يتوقف الزلزال السياسي عند حد ما أسماه اللبنانيون «يوم الحساب» وأدى إلى استقالة الحكومة اللبنانية عقب تعرضها لضغوط هائلة من الشارع اللبناني، فقد انتفض الشعب كاملاً عن بكرة أبيه صارخاً ورافضاً كافة مظاهر الفشل الإداري التي جعلت أراضيه هدفاً لتنافس بعض القوى ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل على المستوى الدولي أيضاً، فقد أظهر رجل الشارع اللبناني حصافة وبصيرة لافتة كونه أدرك وجود مؤامرة مؤكدة من أطراف عدة، أبرزهم بطبيعة الحال حزب الله المدعوم من إيران، والذي أثبت تاريخه المشبوه عدم تردده في ضرب كافة الأهداف اللبنانية الوطنية لصالح تحقيق مصالح الدولة الإيرانية.
في واقع الأمر يجمع اللبنانيون -على غير المعتاد- على المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الانفجار، ولا تقنعهم تبريرات المسؤولين التي يبدو وكأن كل واحد منهم يريد أن يبحث عن كبش فداء يلقي عليه اللوم، غير أنه من المؤكد أن تفجير مرفأ بيروت الأخير هو نتيجة لتراكمات هائلة من الفوضى المنظمة التي تضرب الجسد اللبناني منذ عقود.
في اعتقادي أن لبنان لا يعاني من الطائفية كما يظن البعض، ولكن لبنان يعاني من توظيف بعض القوى للطائفية واستغلالها لتحقيق أجندات مشبوهة، فباستقراء موجز للتاريخ سنجد دولاً كثيرة تتسم بنفس التنوع الطائفي والمذهبي الذي يميز لبنان، غير أن أهلها ينعمون بالهدوء والسكينة ويعيشون في أكناف دولة قوية وسيادية، أما لبنان فمسؤولوها يتفنون في توظيف الطائفية ويبدعون في تكريسها حتى صارت أشبه بعنوان مرادف للدولة وعلى نحو مسيء لها.
من خلال تصريحات «بعض» المسؤولين في لبنان نجدهم يتعاملون مع الأزمة الأخيرة طبقاً لما يتعارف عليه بمبدأ النعامة، التي يبدو وكأنها تدفن رأسها في الرمال عند إحساسها بالخطر أو لاتقاء أشعة الشمس، على الرغم من أن بقية جسدها واضح أمام من يرغب بافتراسها ومعرض بالكامل للشمس، فبعض الساسة في هذا البلد الجريح يحرصون على الظهور بمظهر الباحث عن الحقيقة، الحريص على ضرورة محاسبة المسؤولين عن هذا الجرم الشائن، وكأنهم لا يعرفون على وجه الحقيقة من الفاعل، ومن يتابع تصريحاتهم يظن أنهم جادون في بحثهم عن الحل، وكأنهم لا يعرفون سبب المشكلة ولا يدركون ما هو حلها!.
بعض الساسة اللبنانيين يعرفون تماماً وعلى وجه اليقين ما هي المشكلات التي تواجهها لبنان، وكيف يمكن حلها أو علاجها، ولكنهم يبتعدون عن لب الموضوع ويفضلون الدوران من حوله، من أقصى يساره لأقصى يمينه دون الخوض في عمقه، لأن الوصول للمشكلة والحل سيهز مقاعدهم الوثيرة، وسيهدد امتيازاتهم وسيقضي على قدرتهم على الابتزاز والاستغلال، فهؤلاء ليس لهم أيديولوجية واضحة، أيديولوجيتهم الوحيدة هي مصلحتهم الشخصية وقدرتهم على التربح من موقفهم السياسي أو الأيديولوجي، ولذلك نجد حتى وقتنا هذا بعض سماسرة الحرب الأهلية اللبنانية يعيشون بين ظهراني اللبنانيين حتى اللحظة الراهنة.
تصريحات الرئيس ماكرون وبعض رؤساء الدول أن الإعانات ستصل إلى المواطن اللبناني مباشرة فيها الكثير من الإدانة -بل والمهانة- لهؤلاء السماسرة، إنها رسالة واضحة وجلية كالشمس، لكن في الوقت نفسه فإن هذه المساعدات لن تحل أبداً مشاكل لبنان الجوهرية، فهي ليست أكثر من مسكن للألم وليست علاجاً له، والحل الوحيد يكمن في تضافر الجهود اللبنانية الوطنية للوصول إلى رأي توافقي إصلاحي حول طبيعة الأزمة في لبنان، واستبعاد جميع العناصر غير الوطنية من هذا النقاش المحلي، وهي العناصر التي تدين بالولاء لأطراف خارجية لا تهمها مصلحة الشعب اللبناني في شيء، لأن كل ما يهم تلك الأطراف هو التوسع والتحكم في مصائر الشعوب الأخرى التي تدين لها بالولاء.
إن استبعاد تلك العناصر المسممة يمكِّن من اجتماع القوى الوطنية لخلق خارطة طريق طموحة للشعب اللبناني، تنتهي من خلالها معادلة التحزب والطائفية والاستقطاب، ليعيش الجميع تحت مظلة المواطنة الواسعة، والتي تشمل جميع الأطراف والأطياف على قدم المساواة، دونما محاباة لطرف دون طرف آخر، وبغير تمييز لطائفة عن طائفة أخرى.
كاتب سعودي
Prof_Mufti@
dr.mufti@acctecon.com
لم يتوقف الزلزال السياسي عند حد ما أسماه اللبنانيون «يوم الحساب» وأدى إلى استقالة الحكومة اللبنانية عقب تعرضها لضغوط هائلة من الشارع اللبناني، فقد انتفض الشعب كاملاً عن بكرة أبيه صارخاً ورافضاً كافة مظاهر الفشل الإداري التي جعلت أراضيه هدفاً لتنافس بعض القوى ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل على المستوى الدولي أيضاً، فقد أظهر رجل الشارع اللبناني حصافة وبصيرة لافتة كونه أدرك وجود مؤامرة مؤكدة من أطراف عدة، أبرزهم بطبيعة الحال حزب الله المدعوم من إيران، والذي أثبت تاريخه المشبوه عدم تردده في ضرب كافة الأهداف اللبنانية الوطنية لصالح تحقيق مصالح الدولة الإيرانية.
في واقع الأمر يجمع اللبنانيون -على غير المعتاد- على المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الانفجار، ولا تقنعهم تبريرات المسؤولين التي يبدو وكأن كل واحد منهم يريد أن يبحث عن كبش فداء يلقي عليه اللوم، غير أنه من المؤكد أن تفجير مرفأ بيروت الأخير هو نتيجة لتراكمات هائلة من الفوضى المنظمة التي تضرب الجسد اللبناني منذ عقود.
في اعتقادي أن لبنان لا يعاني من الطائفية كما يظن البعض، ولكن لبنان يعاني من توظيف بعض القوى للطائفية واستغلالها لتحقيق أجندات مشبوهة، فباستقراء موجز للتاريخ سنجد دولاً كثيرة تتسم بنفس التنوع الطائفي والمذهبي الذي يميز لبنان، غير أن أهلها ينعمون بالهدوء والسكينة ويعيشون في أكناف دولة قوية وسيادية، أما لبنان فمسؤولوها يتفنون في توظيف الطائفية ويبدعون في تكريسها حتى صارت أشبه بعنوان مرادف للدولة وعلى نحو مسيء لها.
من خلال تصريحات «بعض» المسؤولين في لبنان نجدهم يتعاملون مع الأزمة الأخيرة طبقاً لما يتعارف عليه بمبدأ النعامة، التي يبدو وكأنها تدفن رأسها في الرمال عند إحساسها بالخطر أو لاتقاء أشعة الشمس، على الرغم من أن بقية جسدها واضح أمام من يرغب بافتراسها ومعرض بالكامل للشمس، فبعض الساسة في هذا البلد الجريح يحرصون على الظهور بمظهر الباحث عن الحقيقة، الحريص على ضرورة محاسبة المسؤولين عن هذا الجرم الشائن، وكأنهم لا يعرفون على وجه الحقيقة من الفاعل، ومن يتابع تصريحاتهم يظن أنهم جادون في بحثهم عن الحل، وكأنهم لا يعرفون سبب المشكلة ولا يدركون ما هو حلها!.
بعض الساسة اللبنانيين يعرفون تماماً وعلى وجه اليقين ما هي المشكلات التي تواجهها لبنان، وكيف يمكن حلها أو علاجها، ولكنهم يبتعدون عن لب الموضوع ويفضلون الدوران من حوله، من أقصى يساره لأقصى يمينه دون الخوض في عمقه، لأن الوصول للمشكلة والحل سيهز مقاعدهم الوثيرة، وسيهدد امتيازاتهم وسيقضي على قدرتهم على الابتزاز والاستغلال، فهؤلاء ليس لهم أيديولوجية واضحة، أيديولوجيتهم الوحيدة هي مصلحتهم الشخصية وقدرتهم على التربح من موقفهم السياسي أو الأيديولوجي، ولذلك نجد حتى وقتنا هذا بعض سماسرة الحرب الأهلية اللبنانية يعيشون بين ظهراني اللبنانيين حتى اللحظة الراهنة.
تصريحات الرئيس ماكرون وبعض رؤساء الدول أن الإعانات ستصل إلى المواطن اللبناني مباشرة فيها الكثير من الإدانة -بل والمهانة- لهؤلاء السماسرة، إنها رسالة واضحة وجلية كالشمس، لكن في الوقت نفسه فإن هذه المساعدات لن تحل أبداً مشاكل لبنان الجوهرية، فهي ليست أكثر من مسكن للألم وليست علاجاً له، والحل الوحيد يكمن في تضافر الجهود اللبنانية الوطنية للوصول إلى رأي توافقي إصلاحي حول طبيعة الأزمة في لبنان، واستبعاد جميع العناصر غير الوطنية من هذا النقاش المحلي، وهي العناصر التي تدين بالولاء لأطراف خارجية لا تهمها مصلحة الشعب اللبناني في شيء، لأن كل ما يهم تلك الأطراف هو التوسع والتحكم في مصائر الشعوب الأخرى التي تدين لها بالولاء.
إن استبعاد تلك العناصر المسممة يمكِّن من اجتماع القوى الوطنية لخلق خارطة طريق طموحة للشعب اللبناني، تنتهي من خلالها معادلة التحزب والطائفية والاستقطاب، ليعيش الجميع تحت مظلة المواطنة الواسعة، والتي تشمل جميع الأطراف والأطياف على قدم المساواة، دونما محاباة لطرف دون طرف آخر، وبغير تمييز لطائفة عن طائفة أخرى.
كاتب سعودي
Prof_Mufti@
dr.mufti@acctecon.com