-A +A
صدقة يحيى فاضل
لن يستقر لبنان (موحداً أو فيدرالياً) أو أي بلد آخر مشابه، إلا إذا «طبع» وضعه السياسي، وأقام نظاماً برلمانياً حقيقياً، يتجسد في دستور لبناني لاطائفي جديد.. يؤكد سيادة الشعب، ويسمح بتكوين الأحزاب السياسية، وفق الأصول المتعارف عليها عالمياً. حيث لا يسمح بقيام أي حزب طائفي أو ديني أو انفصالي، ويمنع أي حزب من تشكيل مليشيا خاصة به، وتحتكر الدولة (ممثلة بالحكومة اللبنانية) كل وسائل الإكراه العام. وهذا يستوجب تحويل ما يسمى بـ«حزب الله» إلى حزب سياسي عادي، منزوع السلاح، حتى لا يكون «دولة داخل دولة». فلبنان كما هو الآن مريض سياسياً. وهذا يعني أن شعبه في وضع معيشي وحياتي خطير. ولن تشفيه إلا هذه الوصفة، التي يجمع عليها كل «أطباء» وخبراء السياسة.

لقد أدى تنوع واختلال التكوين السياسي والاجتماعي اللبناني - بطوائفه الكبرى المعروفة - وعدم وجود «نظام» ملائم، يستوعب هذا الاختلاف، إلى ابتلاء لبنان بمرض سياسي عضال.. اسمه «عدم الاستقرار السياسي» الحقيقي، أو «عدم الاستقرار السياسي المبطن»، أو غير السافر. كان «عدم الاستقرار السياسي» سافراً في بعض المراحل، ومبطناً في أغلب الأوقات. لم يذق لبنان طعم الاستقرار السياسي الحقيقي، منذ ولادته، على يد القابلة الفرنسية. ومعروف أنه ينتج عن مرض عدم الاستقرار السياسي أعراض خطيرة، أقلها الاضطرابات والقلاقل، وأسوأها الحراب الأهلي. وهذا المرض أدى بالفعل إلى حدوث كارثة الحرب الأهلية المأساوية، كما هو معروف، بدءاً من العام 1975م..... تلك الحرب التي ألحقت بلبنان - والعرب، بصفة عامة - خسائر هائلة وفادحة. إضافة لبقية الكوارث المحلية المعروفة، وصولاً إلى تفجير ميناء بيروت يوم 4 أغسطس 2020م.


بقيت الحرب الأهلية مشتعلة حتى توصلت الأطراف المتصارعة إلى «اتفاق الطائف»، برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد (يرحمه الله) وحكومته الذين كان لهم الفضل الأساسي - بعد الله - في وقف تلك الحرب، التي تواصلت على مدار 14 عاماً، كنكبة تنزل بهذا البلد العربي الجميل.. أضيفت إلى نكبات العرب الكبرى في القرن العشرين الماضي.

****

توقفت تلك الحرب في العام 1989م، وبدأت عملية مصالحة وطنية، وحركة إعادة إعمار.. أوشكت أن تجعل ما خلفته تلك الحرب شيئاً من الماضي. غير أن المرض لم يعالج، كما ينبغي. فالورم المسبب له بقي، ولم يستأصل. حيث أُعطي المريض المسكين «مسكنات» إلى حين تناوله العلاج الناجع. ولكنه لم يعالج، وما زال بعد حوالى ثلاثين عاماً من تناول المسكنات، أو الدخول في «هدنة»، يحمل نفس الفيروسات. حقاً، كانت هدنة مؤقتة، وعابرة. ولم يكن «الاقتصاد» وتحسنه إلا عنصراً واحداً من تركيبة العلاج. فكثير من النفوس كانت - وما زالت - تعاني من الألم والغبن، الذي يؤكد أن: بـذور مـرض عدم الاستقرار السياسي (عدم الرضا) مازالت قوية ونشطة.. ورؤساء الطوائف مازالوا يمسكون بالسلطة، لخدمة مصالحهم هم، لا مصالح لبنان، أرضاً وشعباً. بل تحولوا إلى ما يشبه تجار الحروب، وعملاء لأطراف خارجية. كان «الوضع اللبناني»، وما زال، ملغماً. وشبهت فعاله بالقنابل الموقوتة، القابلة للانفجار، في لحظات توتر مواتية. وقد انفجرت عدة مرات. وها هي تعاود الانفجار بتاريخ 4 أغسطس 2020م...؟!

تكررت الانفجارات الناسفة للحياة الطبيعية. وغالباً ما تحصل بعد كل انفجار مراجعة سريعة لما حصل وكان، ثم يقدم للبلد مسكن جديد، فتخمد الأزمة إلى حين، ويستمر العناء الشعبي اللبناني.. مترقباً الانفجار (الكارثي) القادم. وهكذا، أصبحت حياة معظم الشعب اللبناني قلاقل، ومناورات، وصراعات، وانفجارات. وأضحى هذا البلد الرائع بؤرة لعدم الاستقرار السياسي، في منطقة هي أصلاً غير مستقرة، استقراراً سياسياً حقيقياً.

****

إن «وثيقة الاتفاق الوطني» التي أقرها النواب اللبنانيون يوم 13/‏ 10/‏ 1989 م بالطائف (اتفاق الطائف) هي اتفاقية بالغة الأهمية والجودة، ولكنها - وبنص فيها - مرحلية. وهناك بنود فيها مازالت تنتظر التطبيق الفعلي التام و«السليم».. ليكمل اتفاق الطائف دوره.. كاتفاق مرحلي.. يحتاج -بالضرورة- إلى متابعة، فاتفاق لاحق نهائي.. يتمثل في «دستور» جديد دائم للبنان.. يضمن له - على المدى الطويل - الاستقرار والأمن، على أسس صلبة، ويضعف بذور الشقاق، أو يستأصلها من جذورها، للحيلولة دون حدوث كوارث جديدة. ويتطلب ذلك إلغاء دستور 1926م، وما يسمى بـ «الميثاق الوطني» المبرم عام 1943م، المكرس للمحاصصة السلطوية الطائفية.

التوتر في لبنان ليس جديداً، ولم يفاجئ المراقبين إطلاقاً، الذين كانوا - وما زالوا- يضعون لبنان في قائمة الدول غير المستقرة، بسبب هذا «الوضع اللبناني». لقد تأخر علاج لبنان، بسبب تأخر المتابعة من قبل أهله ومحبيه.. وبسبب رغبات إقليمية وعالمية في منع إحداث تغيير سياسي جذري لبناني، قد يترك تداعيات كبيرة، غير مرغوبة، على بعض الأطراف بالمنطقة.

ولكن، هناك جديد في الأحداث الحالية. فما زلنا نرى غالبية الشعب اللبناني، بكل طوائفه، وقد خرجت لتطالب برحيل النظام، وتغييره لما هو «أفضل». وهم يقصدون «كل النظام»، وليس أفراداً أو طائفة بعينها. وعلى هذه الأغلبية الشعبية أن تصعد ضغوطها، التي إن تواصلت، كما ينبغي، ستجبر المعنيين بالإذعان لمطالب الشعب ورغباته، ليخرج الشعب اللبناني كاسباً ومنتصراً في هذه الجولة الحاسمة من صراعه مع سلطة فاسدة، تكرس مصالح القلة التي تمثلها، ولا تكترث بمطالب واحتياجات الإنسان اللبناني العادي، بل وتمعن في الإضرار به، وإذلاله.

كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com