في عام 2012 بثت شبكة (BBC) سلسلة وثائقية تتناول تاريخ العالم، منذ بدء الإنسانية حتى القرن العشرين. تعود إلى أولى الهجرات البشرية خارج أفريقيا، ثم اكتشاف الزراعة، وتكون المجتمعات الحضرية، وصولاً إلى الزمن المعاصر.
جاءت السلسلة في ثماني حلقات يقدمها الصحفي البريطاني أندرو مار. الحلقة الأولى كان عنوانها «البقاء»، حيث يصارع الإنسان من أجل البقاء على قيد الحياة في مواجهة الظروف الصعبة، وتغير المناخ، والبحث عن مكان ملائم يتوفر فيه الماء والطعام.
تبدأ الحكاية قبل 70 ألف سنة في أدغال أفريقيا، قبيلة من الهوموسابيان (الإنسان العاقل) – بشر مكتملو النمو والتطور كما نحن الآن – تتحرك في مجموعة واحدة من أجل تحقيق الاحتياجات الأساسية (الغذاء والمأوى والماء)، حيث كانت التقلبات المناخية هي أكبر التحديات التي تواجههم، فبعد أن تجاوزت الأرض فترة التجمد خلال العصور الجليدية، والسماء كانت مظلمة نتيجة للثورات البركانية الهائلة، أصبح الكوكب أكثر حرارة ورطوبة، وبعد ذلك أكثر برودة وجفافاً، وكل تغيير مناخي كان يتحدى الجنس البشري كي يجد طرقاً جديدة للبقاء، وهؤلاء الذين استطاعوا النجاة، كانوا أكثر ذكاء وصرامة، وأفضل تنظيماً.
تعد الحركة والانتقال من مكان لآخر هي العامل الأساسي للبقاء بالنسبة للإنسان الأول، لأن الاستقرار في مكان واحد يعني فقدان الموارد والجوع ومواجهة الموت. كانت أفريقيا في ذلك الحين منطقة خطرة ومصدر تهديد حقيقيا قد يتسبب في انقراض الجنس البشري. تشير الدلائل إلى أن هناك مجموعات عدة حاولت الخروج من أفريقيا على مدى عشرات الآلاف من السنين، لكن دراسة تطور الحمض النووي البشري كشفت أن هناك قبيلة واحدة فقط هي التي استطاعت أن تنجح في ذلك، وتعيش خارج أفريقيا لتترك لنا أثراً دائماً. كانت هناك مجموعة صغيرة مميزة، ومن بينهم امرأة حامل، تتحرك بجهد وبطء وقلق، خوفاً على طفلها الذي تحمله بين أحشائها، كان الجميع يخاف عليها، وفعلاً سيكون لها شأن مهم في تاريخ الإنسانية. تتكون المجموعة من ألف شخص، يتحركون ببطء تجاه الساحل الشمالي الشرقي لأفريقيا، انتقلت هذه المجموعة من جزيرة إلى جزيرة عبر ما يعرف اليوم بـ«البحر الأحمر»، وبعد رحلة شاقة مضنية، وجهد مرير من أجل التشبث بالحياة، استطاعت هذه المجموعة أن تصل أخيراً إلى مبتغاها.. لقد وصلوا الآن إلى «جزيرة العرب» الحالية، حينها يهتف قائد القبيلة بصرخة الفرح معلناً الوصول إلى بر الأمان، وأرض النجاة، وهو يرى جدولاً من الماء أمامه.. تفيد الدراسات والأحافير أن جزيرة العرب ذلك الحين كانت مروجاً وأنهاراً، غنية بالعشب الأخضر، والحيوانات البرية، والمياه. حينها قررت هذه المجموعة البقاء لمدة من الزمن في جزيرة العرب، جزيرة الأمان، ومفتاح الخروج الكبير من أفريقيا.
حطت الأم الحامل ركابها في الجزيرة العربية، وقد أوهنها التعب، وجهد الرحلة والطريق، وفي هذه الأرض وضعت طفلها.. يقف الصحفي أندرو مار معلقا على المشهد: «إنه لأمر مدهش حقاً، فكل واحد حي منا اليوم ينتسب إلى هذه المرأة، نحن لا نعرف اسمها، لكن يمكن أن نطلق عليها ببساطة لقب (الأم) لجميع العالم». تشير دراسات الحمض النووي إلى أن هناك طفرة وراثية في كل شخص على قيد الحياة، وقد أرجع العلماء هذه الطفرة، إلى هجرة واحدة خارج أفريقيا، قبيلة واحدة، امرأة واحدة. يقول أندرو مار: يبدو أنه أمر مستحيل، لكن سواء كنت من إسلام آباد، أو طوكيو، أو نيويورك، أو النرويج، فهذه الأم التي وضعت طفلها في الجزيرة العربية، هي الأم لكل العالم.
وصلت هذه القبيلة لأول مرة إلى الجزيرة العربية قبل 65 ألف سنة، ثم بعد ذلك، جيلاً بعد جيل، بدأت الرحلات الأخرى تشق طريقها نحو بقية أصقاع الكوكب، وتكاثر البشر، وانتشروا ببطء حتى استعمروا بقية أرجاء الأرض.
كانت الجزيرة العربية حلقة مهمة في تاريخ الإنسانية، فهي البوابة التي استطاع منها الإنسان القديم أن ينفتح على بقية الكوكب، ومن هذه الأرض بدأت رحلة الإنسان الطويلة في الهجرة، مجموعة تحركت نحو الشرق بطول الساحل باتجاه الهند، وشرق آسيا، وصولاً إلى أستراليا، بينما ذهبت المجموعة الأخرى باتجاه الغرب، ووصلت لأول مرة إلى أوروبا قبل 45 ألف سنة. هذه النظرية التي طرحتها (BBC) حول أصل الإنسان، وهجرته الأولى، هي خلاصة لتجارب أجراها علماء من جامعتي «ليدز» البريطانية و«بورتو» البرتغالية، تؤكد أن أول هجرة للإنسان خارج أفريقيا كانت إلى الجزيرة العربية، فبعد مقارنة الخارطة الوراثية لسلالات من الجزيرة العربية والشرق الأدنى مع قاعدة بيانات من مئات النماذج في أوروبا، وجد الباحثون أدلة لسلالة قديمة في شبه الجزيرة العربية. يدعم ذلك ما كُشف عنه مؤخراً في عام 2018 عن أقدم أحفورة بشرية عُثر عليها في صحراء النفود بالمملكة العربية السعودية، قرب مدينة تيماء، يبلغ عمرها 85 ألف سنة، كما ورد في مجلة (البيئة والطبيعة والتطور) التي نشرت دراسة عن «أحفورة عظم أصبع تكشف عن الهجرة البشرية المعقدة للخروج من أفريقيا في الوقت الذي كانت الجزيرة العربية مروجاً عشبية رطبة»، وكانت السعودية أول موطن هاجر إليه الإنسان، واستوطنه في رحلته الطويلة على هذه الأرض.
ALRrsheed@
جاءت السلسلة في ثماني حلقات يقدمها الصحفي البريطاني أندرو مار. الحلقة الأولى كان عنوانها «البقاء»، حيث يصارع الإنسان من أجل البقاء على قيد الحياة في مواجهة الظروف الصعبة، وتغير المناخ، والبحث عن مكان ملائم يتوفر فيه الماء والطعام.
تبدأ الحكاية قبل 70 ألف سنة في أدغال أفريقيا، قبيلة من الهوموسابيان (الإنسان العاقل) – بشر مكتملو النمو والتطور كما نحن الآن – تتحرك في مجموعة واحدة من أجل تحقيق الاحتياجات الأساسية (الغذاء والمأوى والماء)، حيث كانت التقلبات المناخية هي أكبر التحديات التي تواجههم، فبعد أن تجاوزت الأرض فترة التجمد خلال العصور الجليدية، والسماء كانت مظلمة نتيجة للثورات البركانية الهائلة، أصبح الكوكب أكثر حرارة ورطوبة، وبعد ذلك أكثر برودة وجفافاً، وكل تغيير مناخي كان يتحدى الجنس البشري كي يجد طرقاً جديدة للبقاء، وهؤلاء الذين استطاعوا النجاة، كانوا أكثر ذكاء وصرامة، وأفضل تنظيماً.
تعد الحركة والانتقال من مكان لآخر هي العامل الأساسي للبقاء بالنسبة للإنسان الأول، لأن الاستقرار في مكان واحد يعني فقدان الموارد والجوع ومواجهة الموت. كانت أفريقيا في ذلك الحين منطقة خطرة ومصدر تهديد حقيقيا قد يتسبب في انقراض الجنس البشري. تشير الدلائل إلى أن هناك مجموعات عدة حاولت الخروج من أفريقيا على مدى عشرات الآلاف من السنين، لكن دراسة تطور الحمض النووي البشري كشفت أن هناك قبيلة واحدة فقط هي التي استطاعت أن تنجح في ذلك، وتعيش خارج أفريقيا لتترك لنا أثراً دائماً. كانت هناك مجموعة صغيرة مميزة، ومن بينهم امرأة حامل، تتحرك بجهد وبطء وقلق، خوفاً على طفلها الذي تحمله بين أحشائها، كان الجميع يخاف عليها، وفعلاً سيكون لها شأن مهم في تاريخ الإنسانية. تتكون المجموعة من ألف شخص، يتحركون ببطء تجاه الساحل الشمالي الشرقي لأفريقيا، انتقلت هذه المجموعة من جزيرة إلى جزيرة عبر ما يعرف اليوم بـ«البحر الأحمر»، وبعد رحلة شاقة مضنية، وجهد مرير من أجل التشبث بالحياة، استطاعت هذه المجموعة أن تصل أخيراً إلى مبتغاها.. لقد وصلوا الآن إلى «جزيرة العرب» الحالية، حينها يهتف قائد القبيلة بصرخة الفرح معلناً الوصول إلى بر الأمان، وأرض النجاة، وهو يرى جدولاً من الماء أمامه.. تفيد الدراسات والأحافير أن جزيرة العرب ذلك الحين كانت مروجاً وأنهاراً، غنية بالعشب الأخضر، والحيوانات البرية، والمياه. حينها قررت هذه المجموعة البقاء لمدة من الزمن في جزيرة العرب، جزيرة الأمان، ومفتاح الخروج الكبير من أفريقيا.
حطت الأم الحامل ركابها في الجزيرة العربية، وقد أوهنها التعب، وجهد الرحلة والطريق، وفي هذه الأرض وضعت طفلها.. يقف الصحفي أندرو مار معلقا على المشهد: «إنه لأمر مدهش حقاً، فكل واحد حي منا اليوم ينتسب إلى هذه المرأة، نحن لا نعرف اسمها، لكن يمكن أن نطلق عليها ببساطة لقب (الأم) لجميع العالم». تشير دراسات الحمض النووي إلى أن هناك طفرة وراثية في كل شخص على قيد الحياة، وقد أرجع العلماء هذه الطفرة، إلى هجرة واحدة خارج أفريقيا، قبيلة واحدة، امرأة واحدة. يقول أندرو مار: يبدو أنه أمر مستحيل، لكن سواء كنت من إسلام آباد، أو طوكيو، أو نيويورك، أو النرويج، فهذه الأم التي وضعت طفلها في الجزيرة العربية، هي الأم لكل العالم.
وصلت هذه القبيلة لأول مرة إلى الجزيرة العربية قبل 65 ألف سنة، ثم بعد ذلك، جيلاً بعد جيل، بدأت الرحلات الأخرى تشق طريقها نحو بقية أصقاع الكوكب، وتكاثر البشر، وانتشروا ببطء حتى استعمروا بقية أرجاء الأرض.
كانت الجزيرة العربية حلقة مهمة في تاريخ الإنسانية، فهي البوابة التي استطاع منها الإنسان القديم أن ينفتح على بقية الكوكب، ومن هذه الأرض بدأت رحلة الإنسان الطويلة في الهجرة، مجموعة تحركت نحو الشرق بطول الساحل باتجاه الهند، وشرق آسيا، وصولاً إلى أستراليا، بينما ذهبت المجموعة الأخرى باتجاه الغرب، ووصلت لأول مرة إلى أوروبا قبل 45 ألف سنة. هذه النظرية التي طرحتها (BBC) حول أصل الإنسان، وهجرته الأولى، هي خلاصة لتجارب أجراها علماء من جامعتي «ليدز» البريطانية و«بورتو» البرتغالية، تؤكد أن أول هجرة للإنسان خارج أفريقيا كانت إلى الجزيرة العربية، فبعد مقارنة الخارطة الوراثية لسلالات من الجزيرة العربية والشرق الأدنى مع قاعدة بيانات من مئات النماذج في أوروبا، وجد الباحثون أدلة لسلالة قديمة في شبه الجزيرة العربية. يدعم ذلك ما كُشف عنه مؤخراً في عام 2018 عن أقدم أحفورة بشرية عُثر عليها في صحراء النفود بالمملكة العربية السعودية، قرب مدينة تيماء، يبلغ عمرها 85 ألف سنة، كما ورد في مجلة (البيئة والطبيعة والتطور) التي نشرت دراسة عن «أحفورة عظم أصبع تكشف عن الهجرة البشرية المعقدة للخروج من أفريقيا في الوقت الذي كانت الجزيرة العربية مروجاً عشبية رطبة»، وكانت السعودية أول موطن هاجر إليه الإنسان، واستوطنه في رحلته الطويلة على هذه الأرض.
ALRrsheed@