-A +A
مالك عبيد
ثمة علاقة تأثير تبادلية بين أية قضية عامة ورموزها أو ممثليها، فلأي قضية سياسية -على سبيل المثال- أبعاد لا تتشكل إلا من خلال وجود من يحمل لواءها ويعبر عنها ويقود جماهيرها نحو بلوغ الأهداف وتحقيق المطالب، استناداً إلى فكرة اختصار القيادة الرمزية لمعنى القضية، وشرح فلسفتها وترجمة القيم المستخلصة منها والدفاع عنها. وعلى الحد الآخر من التأثير، فقد يشكل ضعف القيادة، وسوء سلوكها أيضاً دوراً بارزاً في سقوط القضايا وتلاشيها مهما بلغت عدالتها.

فجدارة الرمز أو ضعفه هو المحدد الرئيسي لمسار أية قضية قوة أو ضعفاً، وهذا ما جعل الرمزية ترتبط بالمجتمعات البشرية منذ فجر الوعي ولغاية اليوم؛ كونها وسيلة تعبر عن ذات الإنسان وإيضاح ما يصبو أو ينتمي إليه بل ويعبده، حتى أصبحت مبرراً لخوض الحروب وضياع الأنفس والمقدرات والأموال.


القضية الفلسطينية بدورها كانت ولا تزال إحدى أكثر القضاياً التي عانت من قداسة رموزها وقادتها من خلال جمهورها المحترف في صناعة فضاءاتها الرمزية المتضخمة بأولويتها على الجمهور وعلى القضية نفسها، حتى أصبح الحق يعرف برجالها بعد أن كانوا يعرفون بها. وهذا ما زاد من كلفة الأثمان دون أن ترى الجماهير في نهاية أنفاق عواطفها أي قبس. ولم يأتها من هو قادر على إيقاف نزيف الأرض والدماء والهزائم على مدى ثمانين عاماً.

خطاب القيادة الفلسطينية في الاجتماع الأخير للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية لم يكن ردة فعل غاضبة نتيجة للخطوات التي اتخذتها دولة الإمارات ومملكة البحرين في ما بعد، إنما هو انعكاس لثقافة متأصلة في أروقة وصالونات القيادات الفلسطينية المتعاقبة منذ عقود، بل ومستند طالما ارتكزت عليه تلك القيادات في حديثها مع جمهورها. حيث الطرب لسماع سرديات فارغة تدغدغ عواطف الشارع المغيب عن إضافات تاريخية للشعب الفلسطيني، وأفضال منقطعة النظير على دول وشعوب الخليج «الجاهل» و«المتخلف». بينما لتأكيد أو نفي ذلك، لم تكلف تلك القيادات نفسها عناء تقديم أدلة منطقية وواقعية تفسر السر وراء كثرة هزائمها وتردي الوضع المؤسسي لسلطتها، بداية من إدارة البلديات والقرى ولغاية العلاقات الدبلوماسية للسلطة مع الدول العربية والإسلامية، مروراً بإدارة مكتب أبو مازن الذي فشل حتى في ترجمة أفكاره السياسية ونقلها من رام الله إلى غزة. ولعل هذا ما يفسر غياب الجهود العربية الرسمية والشعبية عن سرديات النضال الفلسطيني وفقاً لأدبيات الفصائل الفلسطينية التي تختلف في ما بينها حول فلسطين وتتفق بمجملها على «تآمر الأعراب وخيانتهم» و«أين العرب» و«نحن من علمناكم» و«نحن من أنقذكم من ظلمات الجهل والأمية».

إن قدرة وفاعلية أية قيادة سياسية تتشكل في تحديد أهداف قضيتها وترتيب أولوياتها، ومن ثم اختيار أفضل الوسائل لتحقيق ذلك وفقاً للإمكانيات المتاحة وردود الأفعال الناجمة عن قراراتها، على أن يحدث ذلك في إطار من القيم والمبادئ الإنسانية العليا بالدرجة الأولى مع مراعاة خصوصية القضية وجمهورها. ووفقاً لهذا التفسير لمعنى القيادة الحقيقية، وبعد كل هذا التاريخ الطويل من فشل القيادة الفلسطينية، كان من المنطقي أن يعيد الشارع الفلسطيني اليوم وبكافة انتماءاته قراءة تاريخ قضيته وسلوك رموزها بعيداً عن رومانسية التاريخ والوهم المقدس. وعليه أيضاً أن يطلق حملة وطنية لإعادة تقييمه لذاته انطلاقاً من رصد التشوهات التي لحقت به وبقضيته بسبب ممثليه، عله يدرك المستجدات والمتغيرات الإقليمية والدولية. فتحقيق الأهداف الوطنية يبدأ بالتخلص من ثقل أية رمزية متضخمة تصادر روح القضية وتحول جماهيرها إلى عقول مغيبة لا ترى إلا ذاتها، ولا تعترف بقوانين الطبيعة ولا بالبدائل السياسية إلا من خلال طروحات رموزها.

حتى يحين ذلك لن تتعافى القضية الفلسطينية ولا جمهورها من عقدة الرمز الاستثنائي. ستبقى تتخيله في سرديات غير واقعية لن تساهم في إيجاد الأجوبة الكبرى والوافية حول ديمومة الهزائم والانكسارات، وستجد نفسها تتقن تخليد طابور طويل من القيادات «الضرورة» مراهنة على رمزية أبو نضال أكثر من رمزية إدوارد سعيد!

كاتب سعودي

malekObied@