تضيق مواعين الدهشة والاستغراب حيال طائفة من الناس، تمتلك قدرة «عجيبة» على إطلاق سهامها الطوائش من عواهن القول المرسل، والشائعات التي لا تقوم على ساقين، و«المعلومات» الضامرة من زبدة الحقيقة، والمجانفة للسان الحق الصادق.
ولئن كان مثل هذا المسلك قد درجنا على الإلمام به في مجالس «طق الحنك»، والتغاضي عنه صفحاً، وتقديرًا لـ«هزلية» هذه المجالس؛ إلا أنه من غير المقبول والمتوقع أن يتسرّب هذا السلوك إلى وسائل الإعلام، ويجد له نافذة للانتشار على نطاق واسع..
انظر إلى هذا الذي «زعم» أن ما نسبته 90% من أطباء بلادي ماديون وجشعون، ويرهقون كاهل المرضى بالتزامات مالية فوق طاقتهم في عياداتهم الخاصة، وغير ذلك من الترّهات التي دحرجها في كلامه دون دليل واحد يثبت به كلامه مما يجعل الجهلة والعوام يصدقونه بطريقة بعيدة عن العقل والمنطق والاتزان.
فتحديد هذه النسبة تعني – باختصار – أن قطاعاً عريضاً من الأطباء الوطنيين مندرجون تحت طائلة هذا الاتهام العمى، وأن هذا السهم الطائش قد أصاب «شرف المهنة» لديهم، فهي مهنة الإنسانية في المقام الأول. والتي قال عنها سلطان العلماء العز بن عبدالسلام، إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام والطب صنعة عظيمة غايتها حفظ الصحة موجودة واستعادتها مفقودة وإزالة العلة أو تقليلها بقدر الإمكان، فكان زعمه مرسلاً دون تثبت وبرهاناً ليصبح معلومة سائرة بين الناس، يتحمل وزرها من أطلقها، وهي بخلاف ما عليه الواقع الحال، بحكم التجربة والمشاهدة وبحكم عملي في مستشفى متخصص واختلاطي مع أطباء من شتى القطاعات، أرى معاناتهم وتعبهم وسهرهم وحرصهم على سعادة كل مريض، وكذلك ما يعانيه الطالب الطبيب في رحلته من تعب ونصب وشقاء وعذاب رحلة طويلة محفوفة بكل المعاناة والجهد والبعد والحرمان والغربة في سبيل الحصول على كل جديد ومتقدم في عالم هذه المهنة الشريفة.
ولو أن هذا القائل بطراً تروّى قليلاً، وأعاد النظر في واقع الأطباء الوطنيين، وما يقدمونه من خدمات، وقارن ذلك بنظرائهم، لأمكنه أن يقف على الحقيقة في جلائها.. فعالم الطب اليوم قائم على تقنيات حديثة، ومواكبة مستمرة، بما يتوجّب على أي طبيب أن يسلّح نفسه بالمعرفة المتطوّرة، ويتزوّد بالمعينات التقنية الحديثة القادرة على مساعدته في التشخيص السليم، ومن ثم توصيف المعالجة الدقيقة والصحيحة، وهي أمور لا يمكن أن تتم من غير بذل الجهد والمال والوقت.
أطباؤنا انطلقوا إلى العالمية محققين الكثير من النجاحات التي أبهرت العالم وأدهشته مساهمين في أكبر المراكز العالمية بعلمهم وطبهم وبراعتهم وحذقهم لصنعتهم. أطباؤنا مفخرة لنا في هذا الوطن منذ النشأة والتكوين، فقد وضع كل واحد منهم لبنة صغيرة في بناء هذا الأساس الذي نفخر به اليوم.
لا ينسى من وزع هذه التهمة الباطلة أن أطباءنا هم خط الدفاع الأول في كل أزمة وموقف مر على الوطن وليس جائحة كورنا عنا ببعيد. ضحوا بالكثير وفقدوا أرواحهم وهم يعيشون بين الأسرة البيضاء يخففون آلام الآخرين ومعاناتهم.
إن غايتهم النبيلة تتمثل في سعيهم نحو توطين العلاج في داخل وطننا العزيز، ولو أن أي واحد أراد الحصول على هذه الخدمة الطبية خارج الوطن، لصرف مالاً كثيراً، يفوق في كلفته ما يدفعه للطبيب الوطني، ليحصل على ذات النتيجة في الحالين..
إننا حين نطلب من الطبيب أن يكون في كامل التأهيل الأكاديمي، والاستعداد التقني، والمواكبة العالمية، ينبغي أن ندرك جيداً أن لهذا المطلب ثمنه، ولهذه الغاية سعرها الواجب سداده، فإن قام الطبيب بذلك من ماله الخاص، فلا أقل من أن نفي له بحقه حين نزوره للاستشفاء، ونقصده للعلاج، ولا يكون وفاؤنا لعطائه إنكاراً، وشكرنا لصنيعه جحوداً واتهاماً.
فذلك من شأنه أن يوتّر العلاقة بين الطبيب المعالج، والمريض المُسْتشفِي، ويحوّل هذه القيمة الإنسانية الراقية النبيلة إلى ساحة للتسليع والمساومة التجارية في صورة من صور الابتذال الرخيص لها.
لا يسعني إلا أن أردد مع الدكتور فؤاد عزب (لا لا لتشويه سمعة الطبيب السعودي)، متفقاً معه أن هناك فئة من الأطباء تسعى إلى الكسب السريع وتحميل المريض ما لا طاقة له به وقد لا يحتاج إلى كل هذا الكم من طلبات هذا الطبيب الجشع وهم عموماً قلة لا تكاد تقتصر على الطبيب السعودي وحده فقط.
فهي ظاهرة موجودة في كل دول العالم، وليجرب صاحب هذه التهمة ويذهب إلى شارع هارلي في لندن. وسيعرف وقتها أن تهمته ظالمة.
كلمة أخيرة، هناك إعلانات في لوحات الشوارع الإلكترونية وعلى أبواب المولات تترافق مع إعلانات الدجاج والهمبرجر والأحذية والمكياج لأطباء بصورهم وتخصصاتهم وأرقام عيادتهم، وأعتقد أن مهنة الطب أعلى من هذه الظاهرة وأسمى، فالطبيب في كل العالم لا يعلن عن نفسه هكذا ولا يمكن له أن يهين مهنته بالإعلان عنها وكأنه يسوق لبضاعة، الطبيب هو من يأتي إليه المرضى لعلمه وخبرته وتمكنه من صنعته، لا يسعى هو إليهم بهذه الطريقة الفجة.
وزارة الصحة هي مرجعية الطبيب وهي المظلة التي يحتمي بظلها فإما إنصافاً للطبيب أو تصحيحاً لخطأ قائم.
كاتب سعودي
nyamanie@hotmail.com
ولئن كان مثل هذا المسلك قد درجنا على الإلمام به في مجالس «طق الحنك»، والتغاضي عنه صفحاً، وتقديرًا لـ«هزلية» هذه المجالس؛ إلا أنه من غير المقبول والمتوقع أن يتسرّب هذا السلوك إلى وسائل الإعلام، ويجد له نافذة للانتشار على نطاق واسع..
انظر إلى هذا الذي «زعم» أن ما نسبته 90% من أطباء بلادي ماديون وجشعون، ويرهقون كاهل المرضى بالتزامات مالية فوق طاقتهم في عياداتهم الخاصة، وغير ذلك من الترّهات التي دحرجها في كلامه دون دليل واحد يثبت به كلامه مما يجعل الجهلة والعوام يصدقونه بطريقة بعيدة عن العقل والمنطق والاتزان.
فتحديد هذه النسبة تعني – باختصار – أن قطاعاً عريضاً من الأطباء الوطنيين مندرجون تحت طائلة هذا الاتهام العمى، وأن هذا السهم الطائش قد أصاب «شرف المهنة» لديهم، فهي مهنة الإنسانية في المقام الأول. والتي قال عنها سلطان العلماء العز بن عبدالسلام، إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام والطب صنعة عظيمة غايتها حفظ الصحة موجودة واستعادتها مفقودة وإزالة العلة أو تقليلها بقدر الإمكان، فكان زعمه مرسلاً دون تثبت وبرهاناً ليصبح معلومة سائرة بين الناس، يتحمل وزرها من أطلقها، وهي بخلاف ما عليه الواقع الحال، بحكم التجربة والمشاهدة وبحكم عملي في مستشفى متخصص واختلاطي مع أطباء من شتى القطاعات، أرى معاناتهم وتعبهم وسهرهم وحرصهم على سعادة كل مريض، وكذلك ما يعانيه الطالب الطبيب في رحلته من تعب ونصب وشقاء وعذاب رحلة طويلة محفوفة بكل المعاناة والجهد والبعد والحرمان والغربة في سبيل الحصول على كل جديد ومتقدم في عالم هذه المهنة الشريفة.
ولو أن هذا القائل بطراً تروّى قليلاً، وأعاد النظر في واقع الأطباء الوطنيين، وما يقدمونه من خدمات، وقارن ذلك بنظرائهم، لأمكنه أن يقف على الحقيقة في جلائها.. فعالم الطب اليوم قائم على تقنيات حديثة، ومواكبة مستمرة، بما يتوجّب على أي طبيب أن يسلّح نفسه بالمعرفة المتطوّرة، ويتزوّد بالمعينات التقنية الحديثة القادرة على مساعدته في التشخيص السليم، ومن ثم توصيف المعالجة الدقيقة والصحيحة، وهي أمور لا يمكن أن تتم من غير بذل الجهد والمال والوقت.
أطباؤنا انطلقوا إلى العالمية محققين الكثير من النجاحات التي أبهرت العالم وأدهشته مساهمين في أكبر المراكز العالمية بعلمهم وطبهم وبراعتهم وحذقهم لصنعتهم. أطباؤنا مفخرة لنا في هذا الوطن منذ النشأة والتكوين، فقد وضع كل واحد منهم لبنة صغيرة في بناء هذا الأساس الذي نفخر به اليوم.
لا ينسى من وزع هذه التهمة الباطلة أن أطباءنا هم خط الدفاع الأول في كل أزمة وموقف مر على الوطن وليس جائحة كورنا عنا ببعيد. ضحوا بالكثير وفقدوا أرواحهم وهم يعيشون بين الأسرة البيضاء يخففون آلام الآخرين ومعاناتهم.
إن غايتهم النبيلة تتمثل في سعيهم نحو توطين العلاج في داخل وطننا العزيز، ولو أن أي واحد أراد الحصول على هذه الخدمة الطبية خارج الوطن، لصرف مالاً كثيراً، يفوق في كلفته ما يدفعه للطبيب الوطني، ليحصل على ذات النتيجة في الحالين..
إننا حين نطلب من الطبيب أن يكون في كامل التأهيل الأكاديمي، والاستعداد التقني، والمواكبة العالمية، ينبغي أن ندرك جيداً أن لهذا المطلب ثمنه، ولهذه الغاية سعرها الواجب سداده، فإن قام الطبيب بذلك من ماله الخاص، فلا أقل من أن نفي له بحقه حين نزوره للاستشفاء، ونقصده للعلاج، ولا يكون وفاؤنا لعطائه إنكاراً، وشكرنا لصنيعه جحوداً واتهاماً.
فذلك من شأنه أن يوتّر العلاقة بين الطبيب المعالج، والمريض المُسْتشفِي، ويحوّل هذه القيمة الإنسانية الراقية النبيلة إلى ساحة للتسليع والمساومة التجارية في صورة من صور الابتذال الرخيص لها.
لا يسعني إلا أن أردد مع الدكتور فؤاد عزب (لا لا لتشويه سمعة الطبيب السعودي)، متفقاً معه أن هناك فئة من الأطباء تسعى إلى الكسب السريع وتحميل المريض ما لا طاقة له به وقد لا يحتاج إلى كل هذا الكم من طلبات هذا الطبيب الجشع وهم عموماً قلة لا تكاد تقتصر على الطبيب السعودي وحده فقط.
فهي ظاهرة موجودة في كل دول العالم، وليجرب صاحب هذه التهمة ويذهب إلى شارع هارلي في لندن. وسيعرف وقتها أن تهمته ظالمة.
كلمة أخيرة، هناك إعلانات في لوحات الشوارع الإلكترونية وعلى أبواب المولات تترافق مع إعلانات الدجاج والهمبرجر والأحذية والمكياج لأطباء بصورهم وتخصصاتهم وأرقام عيادتهم، وأعتقد أن مهنة الطب أعلى من هذه الظاهرة وأسمى، فالطبيب في كل العالم لا يعلن عن نفسه هكذا ولا يمكن له أن يهين مهنته بالإعلان عنها وكأنه يسوق لبضاعة، الطبيب هو من يأتي إليه المرضى لعلمه وخبرته وتمكنه من صنعته، لا يسعى هو إليهم بهذه الطريقة الفجة.
وزارة الصحة هي مرجعية الطبيب وهي المظلة التي يحتمي بظلها فإما إنصافاً للطبيب أو تصحيحاً لخطأ قائم.
كاتب سعودي
nyamanie@hotmail.com