-A +A
صالح بن محمد الخثلان
في مقال سابق حاولت نقض مقولة النفط مقابل الأمن، والتي تعد أكثر عبارة تتردد عند الحديث عن العلاقات السعودية الأمريكية، وذلك من خلال عرض للوثيقة التأسيسية للعلاقات قبل خمسة وسبعين عاماً أظهرت غياباً تاماً لمفردتي الأمن والنفط في حديث الزعيمين الملك عبدالعزيز رحمه الله والرئيس روزفلت. وتاريخ العلاقات الممتدة لأكثر من تسعين عاماً يشهد على عمقها وتشعبها بشكل ينقض تماماً تلك المقولة، التي يحرص على ترديدها من لا يدرك أهمية المملكة كلاعب إقليمي ودولي مؤثر. ويكفي الاطلاع على تصريحات المسؤولين الأمريكيين خلال العقدين الأخيرين لمعرفة حجم مساهمة المملكة في دعم أمن الولايات المتحدة وغيرها من الدول، بشكل ينسف الافتراض الذي يقوم عليه متغير الأمن في المعادلة المزعومة.

واليوم تتأكد هذه الطبيعة المتشعبة للعلاقات السعودية الأمريكية وفائدتها للطرفين مرة أخرى عند مراجعة نتائج الحوار الإستراتيجي الذي عقد في واشنطن قبل أسبوعين. لقد انتهى ذلك الحوار بتصريحات من وزيري الخارجية، أكدا خلالها على أهمية الحوار في تعزيز الشراكة التاريخية، وكونه يمثل قناة ضرورية لتبادل الرأي وتنسيق المواقف تجاه مختلف قضايا المنطقة وكذلك المخاطر المشتركة، وقد تم الإعلان عن استمرار الحوار من خلال تشكيل فرق عمل مشتركة للبحث في مجالات الدفاع والاقتصاد والطاقة والتبادل الثقافي والتعليمي.


ورغم أن بعض التغطيات الإعلامية تناولت الحوار الإستراتيجي بشكل يُفهم منه بأنه تأسيسي inaugural، إلا أن الحقيقة أن فكرة الحوار الإستراتيجي بين الرياض وواشنطن بدأت أول مرة في 2005، وجاءت استجابة لما تعرضت له العلاقات من صعوبات وانتقادات أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر نجح الطرفان في تجاوزها بكل سهولة؛ حيث شُكلت فرق عمل عقدت عدة اجتماعات كان لها نتائج ملموسة. ورغم ذلك توقف الحوار دون بيان للأسباب، ولعل لتداعيات أحداث الربيع العربي والخلاف حول كيفية التعامل معها علاقة بذلك.

إلا أنه وانطلاقاً من رؤية عميد الدبلوماسية السعودية الأمير سعود الفيصل رحمه الله، بأن «الخلافات في السياسات مع واشنطن كانت تتعلق في أغلبها بالتكتيكات وليس بالأهداف»، وكذلك مقولة الأمير تركي الفيصل، حين كان سفيراً في واشنطن، في تعليقه على الجولة الثانية للحوار في 2006، بأنه «ليس بالضرورة أن نتفق على كل شيء، ولكن من الضروري أن نعمل معاً لتنفيذ ما نتفق عليه، ونبني على نقاط الاتفاق والتي ستقرب وجهات النظر حول نقاط الاختلاف»، أقول انطلاقاً من هذه الرؤى العميقة فمن المهم إيجاد آلية تضمن استدامة الحوار الإستراتيجي وعدم انقطاعه. فما يجمع الطرفين أكثر وأهم مما يباعدهما، والآثار الإيجابية للشراكة بينهما تتعدى المصالح الثنائية إلى مصلحة المنطقة بشكل عام، حيث تجمعهما قناعة راسخة حول المحافظة على استقرارها والتصدي لأي محاولة لزعزعته.

ولا شك أن الدول لا تحبذ الدخول في حوارات دائمة مع شركائها قد تتوسع لتشمل قضايا داخلية بما قد يمس سيادة الدولة، وهذا تحفظ مفهوم ومحمود، ولكن وبسبب التحول الجذري الذي شهدته العلاقات الدولية خلال العقود الأخيرة والتي كان من آثارها زيادة خطوط التماس بين الشأن الداخلي والخارجي حتى لأكبر الدول وأقواها، فإن ذلك يستدعي ترشيد - إن صح القول - التحفظ والنظر بصورة أوسع للقيمة التي يضيفها الحوار المستمر للعلاقات الثنائية.

ولعل هذا يتبين من زاويتين على الأقل (1) إن المملكة وبسبب رؤية 2030 شهدت تحولات كبيرة جداً جعلت من بعض القضايا التي كانت تشكل يوماً ما عبئاً على العلاقات تتحول لتصبح رصيداً لها ولبنة جديدة للارتقاء بها إلى مستويات أعلى. (2) إن الصورة الذهنية للمملكة خارج دائرة السلطة التنفيذية، ورغم هذه التحولات، لا تزال غير إيجابية، بل إنها زادت قتامة ويشهد بذلك عدد مشاريع القوانين المتعلقة بالمملكة المطروحة في الكونجرس خلال السنوات الأخيرة. ومؤخراً ذكر أحد الخبراء الأمريكيين، وهو من أصدقاء المملكة، أن الصورة السلبية أصبحت أكثر شيوعاً وأقل حزبية، حيث لاحظ انتشارها حتى بين أصدقاء المملكة في الحزب الجمهوري.

ورغم أن الموقف في الدوائر التنفيذية لم يتغير، حيث لا يزال المسؤولون التنفيذيون يدركون أهمية المملكة وتأثيرها وضرورة المحافظة على العلاقة معها وحمايتها من أي تأثيرات سلبية، إلا أنهم قلقون بشأن الصورة السلبية، لذلك يكرر هؤلاء التنفيذيون، وكذلك زملاؤهم في عواصم غربية مهمة، مقولتهم الشهيرة «ساعدونا لنساعدكم»، ويقصدون بذلك أنهم يدركون أهمية المملكة ويسعون بكل قوة لتعزيز علاقات دولهم معها، ولكنهم يتعرضون باستمرار لضغوط من المؤسسة التشريعية ومن الإعلام والرأي العام ومن منظمات مدنية لإعادة تقييم العلاقات، ولذلك فهم يتطلعون إلى معالجة بعض المسائل التي تستخدمها هذه الجهات للتأثير سلباً على العلاقات.

وأستطيع القول بأنه وبعد رؤية 2030 وما حققته من طفرات في كثير من المسائل التي كانت محل إشكال في السابق، لم يعد هناك سوى منغصات يمكن معالجتها من خلال حوار إستراتيجي دائم.

خلاصة القول، إن الكل يشهد على أهمية المحافظة على العلاقات السعودية الأمريكية، حتى أولئك الذين ينتقدون المملكة، وكما جاء في كتاب صدر حديثاً لدبلوماسي أمريكي عاش في المملكة ستة عشر عاماً - وقد أوصت شخصيات كثيرة بأن يكون هذا الكتاب قراءة إلزامية على كل من هو معني بالعلاقة مع المملكة حتى من أعضاء الكونجرس - فإن الشراكة مع المملكة - حسب المؤلف - ضرورية في ثلاثة مجالات مهمة:

(1) المحافظة على الاستقرار في أسواق الطاقة. (2) السلام في الشرق الأوسط، فلا سلام دون المملكة. (3) التصدي للخطاب الديني المتشدد على مستوى العالم.

لذلك يأتي استئناف الحوار الإستراتيجي فرصة ذهبية يجب استثماره والنظر في كيفية تطويره وضمان ديمومته؛ فالتحولات التي تشهدها المنطقة والعالم تؤكد حتمية الشراكة السعودية الأمريكية، ولذلك فمعالجة المنغصات التي لا يترتب عليها أي كُلفة حريّة بمنح العلاقات دفعة قوية تعيد لها طابعها الإستراتيجي.

كاتب وأكاديمي سعودي